جسر – صحافة
عاد رفعت الأسد إلى سوريا بطريقة غامضة، ويُرجح بقاؤها كذلك إلى أمد طويل. وخلال أيام من عملية تهريبه من القضاء الفرنسي لم يُكتب السيناريو التالي: بعد صدور قرار إدانته لوحظ نشاط غير اعتيادي بين الماسونيين الموظفين هناك في قصر العدل، ورصدت أجهزة المخابرات الدولية حجماً غير معتاد من الاتصالات بين المحفل الماسوني الفرنسي ومكتب رئيس فرسان مالطا ورئاسة المجلس الملّي العلوي في القرداحة. تُوّج ذلك كله بحركة مريبة في اتجاه مطار روما، توجهت بعدها وفود ثلاثة تمثل تلك الأطراف إلى الفاتيكان حيث “في أجواء ودية حميمة” استلم وفد المجلس الملّي رفعت الأسد القادم رفقة الوفد الماسوني الفرنسي.
لم يستغرق تلفيق السيناريو السابق سوى دقائق قليلة من كاتب هذه السطور، وهو كما نرى يسدّ عوزاً في المعلومات المتوفرة حول الموضوع، ويقدّم مادة مرغوبة لمن يريد تفسيراً كيفما اتفق، ويقدّم مادة مشتهاة للمولعين بوجود عالم سري يتولى تحريك “الدمى” التي نراها في مواقع المسؤولية من عالمنا الظاهر المسكين. ثم إن الخلط بين ما هو واقعي ومتخيَّل يضعهما في مرتبة واحدة من التأكد، فيصبح المحفل العلوي السري واقعاً لوجود المحفل الماسوني، ويكون تعاون هذه المحافل حصيلة منطقية.
في الحديث عن الجماعات السورية، الذي بدأناه بالحديث عن العلويين هناك آلية مشابهة لصناعة المتخيَّل عن الجماعة، وأيضاً لصناعة متخيَّل الجماعة عن ذاتها. يتضافر في ذلك عاملان؛ نقص المعرفة عن أزمنة صنعت بشكل مباشر العقود الأخيرة، يزيد عليه عدم الاقتناع بفقر تلك الأزمنة مقارنة بالتقدم المعرفي النسبي الذي حققته مجتمعاتنا، مع الأسئلة المحايثة لتقدم المعرفة والتي قد لا تستجر بالضرورة معرفة مضافة.
في المثال العلَوي، يسهل إلقاء الفرضيات عن تدبير بدأ بصلاح جديد وتُوِّج مع حافظ الأسد من أجل استلام “الطائفة” السلطة. يسهل لدى البعض الآخر العودة إلى ما قبل الاستقلال، إلى جيش المشرق الذي أسسته فرنسا ومكّنت من خلاله العلويين “بموجب هذه الرواية”، ليكون الاستقلال خدعةً مفخخة بالجيش السوري الذي ورث جيش المشرق، والذي سينقض على تجربة الديموقراطية الوليدة. لا مكان للمصادفة، ولا لوقائع جديدة منقطعة عما قبلها وتؤسس لما بعدها، بل ثمة دائماً ما هو مدبَّر، وفرضية التدبير الشامل في مرتبة البديهي من دون إثباتات، هي مكتفية بذاتها.
بعد عقود من الصمت الرسمي، أو الظاهري، خرج حديث الجماعات السورية إلى العلن بعدة معرفية متواضعة. بفضل الاهتمام الخارجي بالثورة والحدث السوري عموماً، وبفضل وسائل التواصل الاجتماعي، وجد الكثير مما ينمّ عن جهل طريقه إلى الانتشار والرواج، بما أن الغاية هي حلّ طلاسم “اللغز العلوي”. من أجل هذه الغاية “الجليلة” لا بأس بالحديث عن تلك “المغارة السحرية” التي ينعقد فيها محفل أو مجلس ملّي علوي، تربطه علاقات تآمر دولية تمتد من باريس إلى واشنطن وموسكو، وهناك في المغارة السحرية ذاتها “أو في مغارة مشابهة” تحدث موسمياً طقوس جنس جماعي وفق ما يقتضيه الدين العلَوي. هذه مثلاً روايات جرى تداولها، من دون سؤال أصحابها عن أي سند لمعلوماتهم.
في المقابل، أتت محاولات بعض الناشطين في الثورة من أصول علوية للإضاءة على واقع العلويين، وخاصة على علاقتهم بالسلطة، أتت بمعظمها سطحية وتفتقر إلى كفاءة معرفية. مع التنويه بأنه ليس مطلوباً من أي فرد منحدر من أية جماعة أن يكون ناطقاً باسمها، أو عالماً بأحوالها أو لديه أدنى شعور بالانتماء لها، فإن من يضع نفسه في موقع العارف تترتب عليه مسؤولية تقديم معرفة مقنعة ومتماسكة. القول مثلاً بوجود فقراء علويين، بمعنى أنهم غير مستفيدين من السلطة، يصلح لإقناع من هو بعقل طفل في نقاش يختصر “العقد الضمني” مع السلطة أو وهم امتلاكها بمكسب مباشر متعيَّن. كذلك هو حال الإشارة السطحية إلى معارضين “علويين”، بمعنى أن الجميع ليسوا في مركب الأسد، ووضعنا “علويين” بين قوسين لأنهم بغالبيتهم لا يرون أنفسهم هكذا.
مع تلك التصورات السطحية لهؤلاء النشطاء، أظهروا تصورات عن أحوال الجماعات الأخرى “معلنة أو مضمرة” لا تقل سطحية، منها رؤية السُنّة بصفتهم أهل المدينة وأهل الرأسمال، وعدم رؤية الأرياف “السنية” الفقيرة والمهمشة من السلطة وضمن الحساسية بين الريف والمدينة التي ليس لها طابع طائفي في أكبر مدينتين وريفهما على سبيل المثال، أي حلب ودمشق. الطريف أن هذه الصورة المغلوطة راقت أيضاً لكثرٍ في المقلب الآخر، لأولئك الذين يريدون التخفف من وصمة أبناء الريف.
على العموم، يصعب على كثر رؤية الوقائع كما حدثت حقاً في سياقها التاريخي، وأن علاقة العلويين بالسلطة بدأت مع الاستثمار الأسدي فيها. نجاح الاستثمار هو ما صنع صورة “الطائفة” الصاعدة، لا “الطائفة” الصاعدة هي التي صنعت الأسدية بعد تدرج في السيطرة على الحكم. لقد كان العلويون، لا بوصفهم هكذا بالضرورة، يندمجون منذ انتهاء الحقبة العثمانية في المجتمع، شأنهم شأن غيرهم من أبناء الأرياف التي كانت مهمشة للغاية، فضلاً عن الإقصاء الذي مارسته السلطنة طوال عقود للمختلفين عن دينها الرسمي.
كان العلويون حتى الستينات من ضمن زحف ريفي بطيء، لا يقتصر عليهم، في اتجاه المدن، وفي اتجاه الوظائف العامة التي غالباً يأنف منها أبناء المدن. مع انقلاب البعث سيصبح ذلك الزحف كاسحاً، فالحزب الحاكم هو حزب الفلاحين في المقام الأول. بعد انقلاب شباط1966، سيُشار إلى سيطرة الأقليات ضمن الحزب بـ”عدس”، والكلمة مختصر لعلويين ودروز وسمعوليين، إلا أن المشاركة الدرزية البارزة ممثلة بسليم حاطوم ستنتهي في خريف العام نفسه وكان قبله حمود الشوفي قد أُقصي، وفي جو الصراعات الداخلية ذاته سيُعلن عن انتحار عبدالكريم الجندي “الوجه الإسماعيلي الأقوى والأبرز” في آذار1969. كان وزير الدفاع آنذاك حافظ الأسد يتسلل من بين خطوط الصراع، وهو الأقل مبدئية من رفاقه، وضمن مناخ لم يشارك فيه من التحول يساراً إلى تخوم التأثر بالماوية.
لا يلزم أن يكون في ما حدث مؤامرة، أو تدبير سري إقليمي ودولي. كان هناك وزير دفاع يسيطر على الجيش، ليس مبدئياً كرفاقه وهذه “مرونة” تُحسب له خارجياً وداخلياً أيضاً. خارجياً، كان قد أظهر “مرونته” بقرار الانسحاب من القنيطرة في حزيران1967 قبل وصول القوات الإسرائيلية، ولم يكن متحمساً إطلاقاً بخلاف رفاقه للتدخل لصالح منظمة التحرير الفلسطينية في صراعها مع ملك الأردن. داخلياً، بالكاد ابتلع السوريون قيادة البعث عام1963، وكان آخر ما يودون رؤيته تحولاً يسارياً راديكالياً من أولئك الرفاق. لم تكن علويته في المقام الأولى مقارنة بـ”مزاياه” الأخرى.
في حوار قديم على قناة الجزيرة، سأل المذيع معمر القذافي عن كيفية قيامه بالثورة؟ يجيب العقيد بأنه كان ماشياً في الليل وهو يفكر، فمرّ من أمام بيت أحد رفاقه، وطرق الباب منادياً إياه: قم.. قم.. يكفي جلوساً مع امرأتك. وهكذا قاموا بالثورة. في ما عدا الطرافة في الإجابة السابقة، من المفيد “خارج نظرية المؤامرة” تذكر شخصية القذافي وكيف حكم بلداً نفطياً لمدة عقود، والحقبة ذاتها شهدت العديد من الانقلابات في المنطقة، في وقت كانت أوروبا ممثلة بإنكلترا وفرنسا انسحبت منها، ولم يكن الوجود الأمريكي قد تعزز كما سيحدث بدءاً من السبعينات. بعبارة أخرى، لم يكن انقلاب حافظ الأسد ليحتاج مؤامرة من أي نوع، وسهولته تأتي من الظروف التي استغلها ببراغماتية غير استثنائية إلا في محيط من الرفاق الذين لا يتمتعون بها.
في التحليل الاقتصادي الكلاسيكي تكون الثروة مصدراً للسلطة، في رأسمالية الدولة تكون السلطة مصدراً للثروة ومحتكرة لها. سلطة الأسد تأسست على هذا الاحتكار الذي سيبدأ استثماره طائفياً منذ النصف الثاني للسبعينات، وساعد تدفق المساعدات الخليجية بعد حرب تشرين على وجود وفرة في الخزينة وقدرة أكبر على التوظيف والاستثمار. السهولة والنجاح الكبير في الاستثمار الطائفي يدلان على أن العلويين لم يكونوا طائفة في الأصل، ولو كانوا كذلك “كما هو المتخيَّل عن محفل ملّي أو علوية سياسية” لكان هناك ناظم يجمع العلويين حوله، حتى إذا طغت عليه الأسدية، لا أن تكون الأخيرة هي الناظم الأوحد الذي إذا تم نزعه لم يبق لكلمة “طائفة” من مدلول متعين فعلاً.
وفق المنطق الاقتصادي نفسه، مع سير الأسدية في طريق الخصخصة لصالحها ولحسابها “ثم لحساب روسيا وإيران” لم تعد قدرتها على الاستثمار الأفقي كما كانت من قبل، ولن تشتري أولئك “الفقراء” بوظائف قطاع عام لا تحتاج الكفاءات المطلوبة خارجه. سيبقى المجال المتاح أكثر من غيره للاستثمار هو الجيش والمخابرات، أي القوة المعدّة لمواجهة الداخل السوري. هذا الاستثمار هو المؤثر، واستمراره هو الذي سيولد المخاوف “كما حدث سابقاً” من تغيير ترافقه عمليات ثأر.
ثمة طائفيون علويون لا خيار لهم سوى الأسدية، لأن سقوطها يعني تحلل كل ما يُحكى اليوم عن “طائفة” علوية. حينها، بدل المتخيَّل عن مجلس ملّي لدهاة القوم، سينكشف الواقع عن رجال دين بسطاء، دورهم في مجتمعاتهم الصغيرة هو إحياء الأعياد وتقديم النذور لنسبة تتراجع من العلويين المؤمنين. وبعد انكفاء جراء صدمة التغيير ستعود سيرة الاندماج في الفضاء العام بالمعنى الشامل والحقيقي لا ذاك المنصرف إلى السلطة أو المستقوي بها. المستقبل المنظور لن يكون لصالح التغيير، بل لمراكمة صوة الطائفة المتخيّلة لدى الآخرين، وصورة أبنائها عن أنفسهم الملتبسة بصورة السلطة التي لم تعرف سواها الأجيال الجديدة.
المصدر: موقع المدن