جسر: رأيكم:
كثيرة هي الدروس التي يتعلمها الإنسان من تجاربه في هذه الحياة، ويمكن القول إن ما حدث للمناطق المحررة؛ في حلب والشمال الحمصي والغوطتين ودرعا والقنيطرة؛ درس قاس، دفع أهلنا وشعبنا ثمنه غاليًا في تلك المناطق التي سطرت الكثير من الملاحم والبطولات على أيدي أبناء الجيش السوري الحر، الذي بقي متمسكا بأرضه مدافعا عنها بكل بطولة وبإصرار منقطع النظير.
وعلى الرغم من حجم القوة التي استخدمها الأسد وحلفائه الإيرانيون والروس؛ إلا أنهم لم يستطيعوا أن يسيطروا على شبر واحد من الأراضي المحررة بالقوة، ولهذا لجؤوا إلى الحل الاستخباراتي، فتغلغلوا في صفوف قادة الفصائل، واشتروا ذمم الكثير منهم عبر مشغلي هؤلاء وداعميهم، واتفقوا على السيناريو الذي ظهر على العلن قبل تسليم هذه المناطق، وتم التسليم بمسرحيات جديرة بأن نقول عنها هزلية، عبر معارك وهمية محسوبة النتائج.
وبعد الصدمة التي أحدثها تسليم المناطق المحررة وخاصة المنطقة الجنوبية، جلس أبناء الثورة في درعا مذهولين بما جرى لهم ولأهاليهم، لا يعرفون لماذا وكيف ولمصلحة من تم تسليم رقابهم للجلاد، لكن فترة صمتهم إثر موجة الصدمة التي اجتاحتهم لم تطول، خاصة بعد أن لمسوا بأيديهم حجم الكارثة التي حلت بهم، من خلال الكثير من الممارسات الإجرامية الاعتقالات والمداهمات والاغتصابات التي قامت بها عصابات الأسد والميليشيات الإيرانية في القرى والبلدات التي دحلتها، على الرغم من تعهدات الضامن الروسي، التي ذهبت أدراج الرياح.
وبعد تمكن الأسد وحلفائه من إحكام سيطرتهم على المنطقة، وعلى الرغم من خروج كثير من أهالي المناطق لاستقبال أعداء الأمس، إلا أن هذا الاستقبال وهذه الهتافات، التي مجدت بالقائد والجيش، لم تشفع لهؤلاء البسطاء المساكين، الذين تصوروا بأن الأمور تسير باتجاه عودة الاستقرار، وانتهاء الحرب التي عانوا من ويلاتها الكثير، إلا أنه لم يتبادر إلى أذهانهم وتفكيرهم البسيط الطيب؛ أن الجلاد والمجرم لا يمكن أن يكون حمامة سلام، فمن قصفهم بكل أنواع الأسلحة التقليدية والمحرمة دوليا، ومن جلب كل شذاذ الآفاق من كل أنحاء العالم، ومن استعان بأعتى دولتين لقتل الشعب، لن يتوانى لحظة عن الاستمرار في إذلال هذا الشعب، محاولا إعادته إلى المزرعة التي يعتقد أنه هو المالك لها والحاكم بأمر الله فيها.
ومن هنا بدأت تظهر علامات ومؤشرات تحرك جديد في الأفق، من خلال بعض العمليات النوعية التي قام بها بعض الأفراد من الفصائل التي صالح قادتها، ضد تجمعات ومراكز عصابات الأسد والميليشيات الطائفية، والتي سرعان ما بدأت تأخذ بالانتشار بشكل أُفقي، وشاهدنا جميعا عدد منها، إلا أن كثيرها لم يُعرض، لأن أبطال المقاومة الشعبية الوليدة لم يستطيعوا تصويرها لأسباب أمنية وتكتيكية.
هذه العمليات أعطت الضوء الأخضر والحافز المشجع لكثير من رجالات درعا وشبابها، الرافضين للتسويات المذلة التي فُرضت عليهم من قبل بعض المرتزقة تجار الدم، للتحضير لأعمال سلمية وعلى رأسها المظاهرات، لتترافق مع عمليات نوعية تقض مضجع الغزاة، وانتظر الجميع الفرصة المناسبة لانطلاق هذه المظاهرات.
وعندما قرر الأسد إعادة نصب تمثال للمقبور أبيه في إحدى الساحات الرئيسية في درعا المحطة؛ خرج المئات معبرين عن رفضهم لهذه الخطوة الاستفزازية، التي أعادت للأذهان ما حصل لأطفال درعا في بداية الثورة، خاصة أن التمثال يُظهر الأسد الأب محتضنا طفلين، في رمزية تعبر عن تحدي لأبناء هذه المحافظة، الذي نُكل بأطفاله وقُتلوا بشكل مريع في سابقة لم يسجلها التاريخ، وما جرى للطفل الشهيد حمزة الخطيب، وثامر الشرعي، خير مثال على الإجرام الذي مارسته أجهزة مخابرات الأسد بحق أطفال درعا، والذي كان سببا رئيسيا في انطلاق ثورة الحرية والكرامة في مهد الثورة.
إن إعادة إحياء المظاهرات ضد الأسد وعصاباته في مهد الثورة مؤشر واضح وجلي على أن الثورات تمرض؛ لكنها لا تموت. وتراجع الثورة عسكريا وسياسيا في مراحلها السابقة، منذ عام 2015، إنما هو كبوة حصان أصيل كأصالة هذا الشعب الأبي الطيب، والذي سرعان ما سينهض من كبوته مستعيدا إنجازاته العظيمة التي حققها في ظروف أصعب بكثير من هذه الظروف التي يمر بها الآن.
لكن إذا أراد هذا الشعب أن يستمر ليحقق الأهداف التي خرج من أجلها، والتي أصبحت قاب قوسين أو أدنى من المنال، عليه أن يتلافى أخطاء الماضي؛ فالحراك الثوري يجب أن يرتكز على أسس متينة وصارمة، كي لا نقع في نفس الأخطاء والهفوات التي أودت بنا إلى ما نحن فيه، فالمقاومة الشعبية، بشقيها السلمي والعسكري، يجب أن يرعاهما أبناء هذه الثورة الحقيقيون، وفق آليات تمنع انحراف أحدهم عن خط الثورة وأهدافها، كما انحرفت قيادات الثورة العسكرية والسياسية، إذ نحتاج إلى قيادات تعمل لصالح ثورتنا وشعبنا، وليس لمصالحها الخاصة والحزبية، والتي فتت الثورة وأوقعتها في بازارات الدول الداعمة غير المهتمة إلا مصالحها.
وأعتقد جازما أن الحراك الثوري العسكري كالمقاومة الشعبية، والمدني كالمظاهرات والاعتصامات، في الداخل، في مناطق سيطرة الأسد أو في المناطق التي مازالت محررة، لا يحتاج الكثير من الدعم المادي أو اللوجستي، ويمكن تأمين ذلك من خلال الكثير من المشاريع، ويمكن أن يكون أحد هذه المشاريع؛ مشروع دولار شهريا من كل سوري مغترب في أصقاع الأرض، وهذا يبعدنا عن سيطرة الدول على قرارنا الوطني، ويفرز قادة حقيقيين ووطنيين للثورة التي ابتليت بمجموعة من المتسلقين، ارتكبوا بحق أهلنا وشعبنا وثورتنا الكثير من الجرائم، وكانوا سببا رئيسا في ما وصلت إليه الثورة حتى الآن.
موجز القول؛ نهوض الثورة من كبوتها عبر الحراك الشعبي في مهد الثورة، وما سيعقبه من تحركات مشابهة قريبة على مساحة الوطن، يدل وبشكل واضح بأن هذه الثورة منتصرة ولو بعد حين، ولن يموت حق وراءه مطالب، والشعب السوري دفع الثمن غالي جدا لنيل حريته وكرامته، ولا يمكن لأي شعب في العالم أن يدفع هذا الثمن لولا إيمانه الحتمي بانتصاره، وتحقيق مبتغاه، المتمثل في الحرية والكرامة، واقتلاع نظام الاستبداد المجرم، وما الفجر إلا بقريب، فالظلام لن يطول وإن طال لن يدوم.
٭عقيد منشق، وقيادي سابق في الجيش السوري الحر