جسر:مقالات:
في الوقت الذي تتوالى العقوبات الأميركية فيه حزمةً تلوَ حزمة على نظام الأسد في دمشق، يعمل بوتين في اتجاه معاكس، من خلال إقامة مؤتمر اللاجئين في دمشق يومي 11 – 12 من الشهر الجاري، لبحث عودة اللاجئين السوريين الذين نزحوا من بلدهم فراراً من الحرب التي شنها عليهم نظام الأسد بدعم مطلق من بوتين ذاته.
ولئن لم تكن هذه الدعوة إلى عقد مؤتمر للاجئين هي الأولى من نوعها، إذ سبق أن دعت روسيا دعوة مشابهة في إيلول من العام 2018 على لسان رئيس المركز الوطني الروسي للدفاع ميخائيل ميزينتسيف ،إلّا أن الدعوة اصطدمت – آنذاك – برفض قاطع من دول المجموعة المصغرة المؤلفة من أميركا وألمانيا وبريطانيا وفرنسا ومصر والسعودية والأردن. واليوم لا يرى بوتين غضاضة في الدفع بهذه الفكرة مرة أخرى، بل لعلها تبدو ضرورة ملحّة بالنسبة إلى روسيا أكثر من كونها حاجةً بالنسبة إلى نظام الأسد.
زهوة النصر العسكري التي طالما تغنى بها بوتين وجنرالاته من خلال استعراضهم أمام الشعب الروسي وافتخارهم بأنهم جعلوا من الأرض السورية حقل تجارب لأسلحتهم، فضلاً عن مُنجَزهم المتمثل بالقضاء على المقاومة المناهضة للأسد وتمكينه من إعادة السيطرة على مساحات واسعة مما كان قد افتقده، هذه الزهوة ستبقى منقوصة – بلا شك – طالما أن بوتين لم يستطع حتى الآن أن يستثمر فتوحاته العسكرية ويحوّلها إلى مُنجَـز طالما سعى إليه الرئيس الروسي، وأعني بذلك المكاسب الاقتصادية الهائلة التي وعد بها بوتين الشعب الروسي الذي ما يزال ينتظر الغلال الاقتصادية الوفيرة التي ستتدفق عليه جراء عملية إعادة الإعمار التي ستعقب الحرب.
ما هو مؤكّد أن بوتين قد وعد الشعب الروسي حقاً بانه سيدمّر سوريا، ومن ثم سيعيد إعمارها، وأن جيوب الروس وحدها من ستؤول إليها غلال الإعمار، وقد أنجز الشطر الأول من وعده المتمثل بالدمار والخراب، ولكنه يقف عاجزاً حتى الآن عن البدء بالشطر الثاني من الوعد الذي قطعه على نفسه، إذ إن إعادة الإعمار بحاجة إلى شرطها الجوهري وهو وجود الداعم أو المانح، فضلاً عن الشروط الأخرى التي لا تقلّ جوهريةً عن سواها، وأعني العودة الآمنة للاجئين والاستقرار السياسي في البلاد، وفي حال غياب تلك الشروط لا يرى المجتمع الدولي أيّ مسوّغ للمسعى الروسي، إذ إن الموقف المُعلن للولايات المتحدة الأميركية وأوروبا ما يزال رافضاً لأي مسعى للبحث في قضية اللاجئين أو إعادة الإعمار دون تحقيق حل سياسي يستند إلى المرجعيات الأممية وخاصة القرار 2254 .
المعطيات الملموسة للعملية السياسية توحي بأن المفاوضات أُصيبت بالعقم، بل هي عقيمة قبل أن تبدأ، واللجنة الدستورية المنبثقة من لقاء سوتشي 2018 ما تزال تراوح مكانها دون أيّ تقدّم يُذكر، ولكن بوتين وحده يبدو أنه مستعجلٌ أكثر من الجميع، ولعل هذا الاستعجال هو ما دفعه للمحاولة في إيجاد سبيل ما، يمكّنه من الالتفاف على الإرادة الدولية والشروط الموضوعية للعملية السياسية بآن معاً.
لقد أفلح الروس فيما مضى بالالتفاف على القرارات الدولية ذات الصلة بالقضية السورية، من خلال إيجاد مسار أستانا مطلع العام 2017، كما أفلحوا في تقويض أهم الحوامل الحقيقية الجوهرية للحل السياسي، وأبقوا منها حاملاً واحداً فقط هو (سلة الدستور) التي يتعاطى معها نظام الأسد كوسيلة لاستثمار الوقت والمماطلة لا أكثر، فهل سينجح بوتين هذه المرة بالالتفاف أيضاً على الإرادة الدولية الكابحة لمشروعه المزعوم في عودة اللاجئين؟
من غير المُستَبعَد أن يتمكّن الروس من الإيعاز لنظام دمشق كي يصدر قرارات من شأنها أن تكون مطمْئنة أو جاذبة لبعض السوريين، كإصدار عفو عام مثلا، ودعوة المطلوبين أمنياً للعودة إلى سوريا، وإبداء تسهيلات كثيرة لعلها تغري البعض بالتفكير بالعودة إلى سوريا، وقد يتمكن الروس من حشد العديد من الدول الداعمة أو المنحازة لنظام دمشق بحضور هكذا مؤتمر، ولكن هل سيتمكّن من إقناع واشنطن وأوربا بفحوى مسعاه؟ ربما لا يراهن بوتين في الوقت الحاضر على تأييد أميركي أوروبي في الوقت الحاضر، ولكن هذا لا يمنعه من المراهنة على تحويل هذا المشروع أو إزاحته من المظلة الأممية الدولية إلى مظلة أو مشروع إقليمي، تماماً كما استطاع إيجاد مسار أستانا من خلال تفاهمات إقليمية محددة اقتضت مصالحها أن تكون راعية لمسار موازٍ لمسار جنيف، ولم يلق هذا المسار مناهضة دولية، بل على العكس من ذلك، إذ واظبت واشنطن على مواكبة معظم لقاءات أستانا ولو بصفة مراقب، كذلك يمكن أن تتحول قضية اللاجئين السوريين من شأن أممي إلى شأن إقليمي، وإذا كانت هذه المراهنة قائمة، فما هي مقوّمات نجاحها أو إخفاقها بالنسبة إلى روسيا؟
ثمة مسألتان يمكن الإشارة إليهما بإيجاز،الأولى: ما كان لبوتين أن يحظى بالانفراد – عسكرياً – بالشأن السوري لولا التفويض الأميركي الأوروبي، وقد كان التدخل الروسي المباشر في 30 إيلول 2015 ، إيذاناً صريحاً ومباشراً من جانب حكومة باراك أوباما آنذاك بأن القضية السورية ليست أولوية أميركية، كما أن الوجود الأميركي في سوريا لم يحصل من أجل الصراع الحاصل بين السوريين ونظام الأسد، بل من أجل محاربة تنظيم داعش ومشتقاته في المنطقة، وقد لاحظ المتابعون لجميع جولات – كيري – لافروف – آنذاك، ان نتائج تلك اللقاءات غالباً ما كانت تدفع باتجاه إتاحة المجال للروس بالتغوّل أكثر فأكثر في سوريا.
اليوم وبعد عودة الديمقراطيين إلى البيت الأبيض، هل يفكر بوتين بتفويض جديد يمكّنه من استثمار حربه على السوريين؟ ولكن في موازاة هذا السؤال، يمكن أن يُطرح السؤال التالي: ألا يمكن أن يكون ( قانون قيصر) هو الردّ الأميركي العملي والحاسم والكابح في الوقت ذاته للمسعى الرامي إلى تحويل منجز الحرب الروسية إلى غلال اقتصادية؟
المسألة الثانية تتمثل في حاجة بوتين إلى حلفاء أو شركاء إقليميين، وقد رأينا أن تقاطع المصالح الروسية التركية الإيرانية كان هو الحامل الحقيقي لمسار أستانا، فهل يفكّر بوتين مرة أخرى بإقامة شراكة إقليمية جديدة، ومن هي الدول التي يمكن لبوتين التعويل عليها؟ فتركيا التي هي الأقوى نفوذاً في الشأن السوري والأكثر نفوذاً لدى المعارضة السورية، قد استثناها نظام الأسد من الدعوة إلى المؤتمر، بل وعدّها من الدول التي تستثمر اللاجئين سياسياً على حدّ زعمه. يبقى القول: إن معظم الدول التي أعلنت عن حضورها أو مشاركتها في مؤتمر دمشق، لا يتجاوز عدد اللاجئين السوريين لديها خمسمئة ألف لاجئ، ثم إن هذه الدول ذاتها لا تملك أيّ قدرة على تمويل ما يطمح إليه بوتين من إعادة الإعمار.
لا شك أن الجانب الإنساني في قضية اللاجئين السوريين، هو أهم بكثير من تداعيات السياسة، ولكن – وكما بات معلوماً لدى الجميع – يبدو صراع المصالح بين الدول النافذة في الشأن السوري، لا يعبأ بفداحة المأساة السورية بجوانبها الإنسانية أو الاجتماعية، بقدر ما ينحاز لمنطق المنافع المادية، فحين نجد أن ما يقارب ستة ملايين ونصف من السوريين مُهَجّرون خارج سوريا، ومثلهم أيضاً نازحون في الداخل السوري، فذلك يعني أن ما يقارب نصف سكان سوريا هم في عداد اللاجئين، وعلى الرغم من ذلك، لم تخلق هذه القضية حافزاً إنسانياً كافياً لدى المجتمع الدولي يفضي إلى إنصاف الضحية ومحاسبة المجرم.
لم يتورّع بشار الأسد وداعموه الروس عن قتل السوريين وتهجيرهم خلال سنوات خلت، بل كان ذلك الإجرام عملاً مشروعاً وفقاً لنظرية ( التجانس) التي جعلها حاكم دمشق غطاءً يشرعن إجرامه، واليوم يطلب المجرم من ضحاياه أن يعودوا إلى حياضه، لا ليعتذر منهم بالطبع، بل لاستثمار تلك العودة في إعادة إنتاج إجرامه من جديد.
المصدر: موقع تلفزيون سوريا