إسلام البامري
“عمارتنا نظيفة، ومؤثثة، وهادئة، وخالية من السوريين…”
قد تبدو هذه الجملة هزليةً للبعض، أو غريبةً للبعض الآخر، لكن الحقيقة هي أنك يمكن أن تصادفها في مواقع إعلانات، عن بيوت للإيجار، في عينتاب، أو أورفا، أو إسطنبول، أو غيرها من المدن التركية.
أن تكون سورياً في تركيا، يعني أنك مواطن بدرجة ضيف ثقيل. أنت حرفياً ضيف ثقيل في نظر الجميع، بدءاً من بائع الخبز الذي يسألك صباحاً إن كنت سورياً، أم لا، كلما لاحظ اختلاف لهجتك. هو سيبيعك الخبز في كلتي الحالتين، لكنه سيقرر إن كان سيبيعك إياه مبتسماً، أو مرفقاً بنظرة امتعاض وتأفف… وصولاً إلى رئيس الجمهورية الذي يستعمل أزمة اللاجئين كورقة ابتزاز للاتحاد الأوروبي، والمعارضة التي تعدّ، علناً، طرد السوريين، أسمى بنود برنامجها الانتخابي.
أتدري ماذا يعني أن تدرس، وتعمل، وتخرج، وتحلم، وتتزوج، في بلد من فيه كلهم، يتمنون رحيلك؟ صحيح أن العنصرية موجودة بدرجات متفاوتة، في أغلب بلدان العالم، لكن ما تنفرد به العنصرية التي يواجهها السوريون في تركيا، كل يوم، هو أنها عنصرية صريحة، ووقحة، و”مبررة”.
هوية صارخة
يرى بعض الأتراك أن السوريين لم ينجحوا في إخفاء “هويتهم” الصارخة؛ يتكلمون التركية بلكنة واضحة، ويضحكون بمعدل أعلى من متوسط معدل ضحك المواطن التركي، ويسهرون كثيراً، ويعملون بأجور أقل، فيما يرى البعض الآخر، أن السوريين يستحقون هذه المعاملة، لأنهم يعيشون حياتهم بشكل عادي، فيتزوجون، ويقيمون الأفراح، وأعياد الميلاد، وحفلات الخطوبة، على الرغم من أن بلدهم في حرب، أو لأنهم، ببساطة، ليسوا أتراكاً، ولن يكونوا كذلك أبداً، حتى لو حصلوا على الجنسية، لأن العرق التركي عرق “مميز وراقٍ”. وكَون أنهم “حظوا بامتياز العيش مع هذا الشعب المتفوق”، مؤقتاً، على الأرض نفسها، فذلك في حد ذاته امتياز لا يمكن أن تطالب بعده بامتيازات أخرى، كأن تتم معاملتك بتساوٍ، كمواطن.
لنخرج من الأطر النظرية التحليلية لظاهرة العنصرية، ونتكلم عن مدى تغلغلها في التفاصيل اليومية لحياة السوريين في تركيا. هذه التفاصيل التي، ربما، لم يعد يلحظها السوريون أنفسهم، والتي لاحظتها كلما وجدت نفسي مضطرة إلى أن أبرر أنني لست سورية، حتى أسهّل على نفسي بعض المعاملات أحياناً، أو حتى أحصل على رد فعل ألطف أحياناً أخرى، ووجدتُ نفسي، لا إرادياً، وقد صرت أعدّ كوني غير سورية، امتيازاً أُخرج به نفسي من مأزق الأحكام المسبقة التي تلاحق السوريين، كلعنة، وصرت أتساءل لماذا لا يسعى أحد من المنظمات الحقوقية، أو الناشطين في المجتمع المدني، إلى تغيير هذا السلوك المجتمعي، أو التصدي لمسبباته؟ لكنني اكتشفت أن للموضوع خلفيات اجتماعية، وسياسية، وتاريخية، يطول شرحها، وهي لا تعنيني مباشرةً، بقدر ما يعنيني تأثيرها على مدى صعوبة تحقيق أي تغيير.
أرض هشة
كيف يمكن أن تحدث تغييرات طويلة الأمد، ضمن مجتمع يؤمن إيماناً تاماً بأن وجود السوريين في تركيا، هو وجود مؤقت؟ حتى بالنسبة إلى أولئك الحاصلين على الجنسية منهم، تركيا أرض هشة، ورخوة، وبالنسبة إلى أغلب السوريين أيضاً، لأن وجودهم فيها مرهون بحسابات سياسية متقلبة، وبمشادات بين الحكومة والمعارضة… أتدري ماذا يعني أن تكون معاناة تهجيرك، ورقة دعاية حزبية رخيصة؟ أن ترى دموعك، ودماءك، تباع وتُشترى أمامك، عند كل فرصة يُلقى فيها خطاب يناقش فيه سياسي تافه، الخطة الوردية الجميلة لإعادتك إلى أرض الوطن، بكل بساطة، إذا ما فاز في الانتخابات؟ أتدري كم هو صعب أن يظل كل شيء يذكرك بأنك غريب، ومهدد بالترحيل، بينما تحاول جاهداً أن تبني لنفسك أرضاً صلبة، تقف عليها في غربتك؟
إن أوضع ما في الأمر، هو أنهم مقتنعون تماماً بأنك تملك خيار العودة إلى وطنك الهادئ المسالم، لتعيش في استقرار، وهدوء، ولكنك تختار، بكامل إرادتك كلاجئ، أن تبقى، لأنك تريد ذلك بكل بساطة. لا يقتنع أصحاب الأفكار العنصرية أن السوريين لا يمتلكون رفاهية الاختيار حتى، والحقيقة أن الوقائع واضحة، وجلية لمن يريد أن يراها، لكن التحيز للطرف العنصري، والترويج لمثل هذه المغالطات، أسهل لأولئك الذين يتبنون علناً، أو ضمنياً، نظرية تفوقهم القومي، أو العرقي، لأنه ببساطة يعطيهم شعوراً داخلياً بالرضا، والتبرير لكل ما قد يصدر عنهم من تصرفات، ومواقف عنصرية.
في الحقيقة، استقبال اللاجئين، وتوفير متطلبات الحياة الأساسية لهم، لا يُعدّ مجهوداً كافياً، إذا لم تصحبه إرادة حقيقية، وصادقة، لإدماجهم في المجتمع، وإصدار قوانين ردعية، للتصدي لمظاهر العنصرية كلها، التي قد تواجههم، والأهم إخراجهم من المزايدات السياسية كلها، ومعاملتهم فعلياً كمواطنين متساوين في المواطنة، وهو ما يفتقر إليه السوريون في تركيا، حالياً.
المصدر: رصيف 22