إن تأكدت المعلومات التي تم تداولها مؤخراً، عن مشاركة مقاتلين روس من مجموعة “فاغنر”، في معارك سراقب، الأخيرة، فهذا يعني أن النظرية التي أُشيعت عن “فاغنر” بوصفها شركة خدمات عسكرية، أو “مرتزقة”، في أحسن الأحوال، ليست في محلها. وأن النظرية الأخرى، التي تربط تلك المجموعة العابرة للحدود، من المقاتلين الروس، بالكرملين، أو بأجهزة المخابرات الروسية، بشكل مباشر، هي الأدق.
وحسب النظرية الثانية حول “فاغنر”، فإن الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حرص على اتباع استراتيجية محببة له، وهي استخدام مقاتلين روس، في مناطق صراع، لا يريد أن يتورط فيها بشكل مباشر. أو ربما، في نقاط قتال محددة، لا يريد أن يكون الجيش الروسي متورطاً فيها، مباشرةً.. بحيث يحقق أهدافه، لكنه في نفس الوقت، يستطيع أن يتنصل من المسؤولية. وهذا ما يبدو أنه حدث في “سراقب”، أخيراً.
تذهب روايات إلى أن بدايات الصداقة العميقة التي تربط بين رجل الأعمال الروسي المثير للجدل، يفغيني بريغوجين، وبين فلاديمير بوتين، تعود إلى العام 2001، حينما بدأ الثاني يتردد على المطعم الفاخر الذي يملكه بريغوجين في “نيو أيلاند” في سانت بطرسبيرغ. ولا نعرف إن كان ذلك هو السبب الذي أشاع لقب “طباخ بوتين”، الذي بات لصيقاً بـ “بريغوجين”، أم أن هذا اللقب نتج في مرحلة لاحقة، حينما أتاحت الصداقة بين الرجلين لـ “بريغوجين”، فرصة الحصول على عقود إطعام الجيش الروسي، عبر شركة خدمات يملكها.
لكن ما هو موثّق، أن طموح “بريغوجين”، الذي بدأ مشواره، كبائع “نقانق”، كان كبيراً جداً. ورغم أنه سُجن لمدة تسع سنوات، بتهمة السرقة والنصب، قبل صعوده السريع في التسعينات، إلا أن ذلك لم يكن عائقاً أمام ولوجه إلى دائرة بوتين المقرّبة.
ويبقى الخلاف حول شخصية “بريغوجين”، ونشاطاته، مقتصراً على تفسيرين متباعدين نسبياً. إذ يقدمه التفسير الأول، بوصفه رجل أعمال، يستخدم علاقاته بالنخبة السياسية والأمنية والعسكرية الروسية، لتحقيق مصالحه. فيما يقدمه التفسير الثاني، بوصفه مجرد أداة من أدوات هذه النخبة، وعلى رأسها بوتين. ووفق التفسير الثاني، يبدو “بريغوجين”، مجرد بيدق، يحركه بوتين، حينما لا يريد أن يظهر في الصورة.
ومن بين القضايا العديدة، المثيرة للجدل، المرتبطة بـ “بريغوجين”، تبرز مجموعة “فاغنر”، بوصفها الأكثر ارتباطاً بالشأن السوري.
ذلك أنه قبل سنتين وبضعة أسابيع من اليوم، وقّع بريغوجين مع حكومة نظام الأسد، في دمشق، اتفاقاً، عبر إحدى شركاته، “إيفرو بوليس”، ينص على منح الشركة 25% من عائدات أي منشأة نفطية أو غازية، تسيطر عليها مجموعة “فاغنر” التابعة للشركة، من قبضة تنظيم “الدولة الإسلامية”، وتتولى حمايتها.. وذلك لمدة خمس سنوات، من تاريخ السيطرة عليها.
وبعد شهر من ذلك الاتفاق، قامت مجموعة “فاغنر” بهجوم على موقع حقل كونيكو للغاز، بشمال شرق دير الزور. وحينما رصد الأمريكيون تحضيرات الهجوم، تواصلت القيادة العسكرية الأمريكية في المنطقة مع عناصر الارتباط في الجيش الروسي، المخولين بالتواصل معهم، للاستفهام منهم، إن كان هناك عملية للجيش الروسي في منطقة تم الاتفاق على أن تكون من حصة الأمريكيين حينها، في “شرق الفرات”. فرد الجيش الروسي بأنه لا يقوم بأية عمليات في تلك المنطقة. وهنا، تدخل الطيران الأمريكي، وحصد المئات من المقاتلين الروس والإيرانيين والسوريين التابعين للنظام، أثناء اقترابهم من الحقل. وذهبت مصادر حينها إلى أن عدد القتلى الروس، فاق الـ 200 قتيل. كما ذهبت بعض المصادر إلى أن “بريغوجين”، شارك بنفسه في التخطيط للهجوم الفاشل.
لماذا نفى الجيش الروسي أي علاقة له بالمرتزقة الروس؟ ببساطة، لأن بوتين عقد اتفاقاً حينها، مع الأمريكيين، يقرّ فيه لهم، بمنطقة “شرق الفرات”، مقابل إقرارهم بمنطقة “غربي الفرات”، له ولحلفائه من الإيرانيين. ولأن بوتين لا يجرؤ على الصدام المباشر مع الأمريكيين، قرر أن يجرّب هجوماً مفاجئاً ضدهم، تقوم به مجموعة مرتزقة، يستطيع التملص من المسؤولية عنها. فهي مجموعة تتبع لشركات خدمات عسكرية، وقّعت عقداً مع حكومة النظام السوري. ولا تستطيع واشنطن تحميل “بوتين”، رسمياً، المسؤولية حيال ذلك.
والغريب في الأمر، أن هذه النظرية التي تقدم “فاغنر” على أنها مجموعة مرتزقة، تعمل لصالح شركة خدمات عسكرية وأمنية، تناظر شركة “بلاك ووتر” الأمريكية، بحيث أن لا سيطرة مباشرة للكرملين عليها.. هذه النظرية، سادت في الإعلام الغربي بكثافة، على حساب النظرية الثانية، التي ترى بأن شركة “إيفرو بوليس”، مجرد واجهة، وأن “فاغنر” هي مجموعة تتبع مباشرة للمخابرات الروسية، وتنفّذ أدواراً قذرة بتوجيهات مباشرة من الكرملين.
في سراقب، وإن تأكدت مشاركة “فاغنر” المكثفة، وفق وصف المصادر المعارضة وتأكيداتها، فهذا يعني نفي صفة “الارتزاق” المالي عن هذه المجموعة والشركة التي تتبع لها. إذ لا آبار نفطية في إدلب، تحصل “فاغنر” من خلالها على ريع مالي. ومن غير المعقول، أن نتوقع، أن نظام الأسد قادر على تمويل عمليات هذه المجموعة، بدليل أنه سلم لها الكثير من آبار النفط والغاز العائدة لسيطرته، كي تحصل على إيرادات منها، بدل “أتعابها” في السيطرة عليها، وحمايتها.
وجود “فاغنر” في سراقب، يعني أمراً واحداً، أن بوتين يريد قتل الجنود الأتراك، مع الإدعاء بأنه ليس مسؤولاً بشكل مباشر عن ذلك. ولن يجد أفضل من “طباخه” كي يقوم بهذه المهمة.
المصدر: موقع اقتصاد