جسر – صحافة
عبد الناصر العايد
يكاد يكون ثمة إجماع بين المراقبين للانتخابات الفرنسية على أن ايمانويل ماكرون سيحصل على مقعد في جولة الإعادة للانتخابات الفرنسية، مقابل أحد مرشحي اليمين، غالباً مارين لوبن، ومن ثم الفوز بولاية جديدة بفضل أصوات اليسار التي ستصب في صالحه. ويبدو، من مطالعة المراجعات النقدية العامة في الصحافة الفرنسية والدولية، أن تقدم ماكرون على منافسيه، ليس سوى انعكاس لامتلاكه رؤيا استراتيجية مرنة وديناميكية، يتفوق بها بسهولة على منافسيه، سواء مارين لوبن المتخندقة في مواقع التطرف القومي، أو إريك زيمور المتسلح بالثقافة البرجوازية وسياسة الهوية المعادلة للعنصرية اتجاه المهاجرين، أو جان لوك ميلانشون الذي يعاني ككل اليسار الفرنسي من جمود فكري وسياسي منذ عقود.
لقد طرح ماكرون رؤاه السياسية في كتابه الذي أطلقه قبيل حملته الانتخابية الأولى، تحت عنوان “الثورة”، وهي المفردة الملتصقة بالعقل والقلب الفرنسيين على نحو لا فكاك منه، لكنه علّق ثورته، ووضع كتابه على الرف، شأنه شأن كل سياسي يخوض غمار السلطة الفعلية ويعيش تقلباتها ومتغيراتها غير المحسوبة من قبيل تفشي وباء كورونا على سبيل المثال. مع ذلك، تمكن ماكرون من إقامة صلات ملموسة بين رؤاه الفلسفية والسياسية، وعمله السياسي، وبدأ الاعتراف اليوم، وإن على نحو حذر، بالماكرونية، كنهج متميز في الحياة والتاريخ السياسي، لا الفرنسي وحسب، بل والأوروبي أيضاً، خصوصاً بعد تفجر الأزمة الروسية الأوكرانية، التي شهدت تحدث كل القادة الأوروبيين بلغة شبيهة إلى حد بعيد باللغة التي تحدث بها ماكرون العام 2018، لا سيما على صعيد سياسات الأمن والعسكرة نحو روسيا، والسياسات الاقتصادية نحو الصين.
بنى ماكرون رؤيته على دعامتين أساسيتين، هما فلسفة ريكور السياسية، ونهج روكار الاقتصادي، وكلاهما منبعا تأثير اعترف بهما علانية، بنوع من الفخر، خصوصاً تأثير الفيلسوف الفرنسي بول ريكور (1913-2005) الذي عمل ماكرون الشاب مساعداً تحريرياً له في كتابه الأخير “الذاكرة، التاريخ، النسيان”.
دافع ريكور عن الأيديولوجيا، ووصفها بعملية جماعية لصنع المعنى، تُحافظ على المجتمعات من خلال فهم مشترك للعالم. ودافع عن الدولة الفرنسية كمساحة للتفاوض على السرديات المتباينة والتوفيق والمصالحة بينها من جهة، وعن الاتحاد الأوروبي كنوع جديد من المؤسسات السياسية المشتملة على تراث أوروبا المتنوع من جهة أخرى.
أما ميشال روكار (1930-2016)، السياسي الفرنسي وعضو الحزب الاشتراكي، والذي شغل منصب رئيس وزراء خلال حُكم فرنسوا ميتران من 1988 حتى 1991، فهو السياسي الفرنسي الذي طمح للمرة الأولى الى إزالة الحدود بين اليمين واليسار، وإفساح الطريق جزئياً أمام النيوليبرالية الاقتصادية، مع المحافظة على القيم والتقاليد القومية الفرنسية.
قبل أن تتلاقى أفكار الرجُلَين في النهج السياسي العملي لماكرون، كانت تصوراتهما ورؤاهما قد التقت في مؤلَّف لم ير النور قط، عزما على كتابته معاً، مطلع التسعينيات، تحت عنوان “الفيلسوف والسياسي”. لكنهما، بدلاً من الكتاب، خرجا بحوار مطول، يبدو أن ماكرون اعتمد عليه لدمج فلسفة معلّمه ريكور، بالرؤية الاقتصادية لمعلّمه الآخر روكار، وجعل من ذلك المُركَّب مادة حملته الانتخابية الأولى. إذ أن الموضوع الأساسي الذي دافع عنه ريكور في ذلك الحوار، هو كيفية مقاومة نزعة اقتصاد السوق للهيمنة على جميع مجالات الحياة الاجتماعية والاقتصادية، بعدما صار جلياً انتصار الليبرالية في المجال الاقتصادي. وخفض روكار مهمة الدولة السياسية، إلى حماية مجالات معينة، مثل التعليم والرعاية الصحية، مع تجنيبها منطق الربح والمنافسة.
جهد ماكرون لتطبيق تلك الرؤي في عالم متغير، ظل يدعم القيم الجمهورية الفرنسية، لكنه أدخل مفهوم مرشده الفلسفي في الذاكرة والدولة كمساحة لتسوية السرديات، وطرح الاعتراف بـ”ما لم يكن جديراً بالثناء” في تاريخ فرنسا، مثل الاستعمار والعبودية وغيرهما. كما حذر من خطر حرب أهلية تواجهه فرنسا بسبب أولئك الذين استأثروا بثمرات العولمة الاقتصادية، وهم قلة، بينما تقبع أعداد كبيرة من السكان في أحياء المهاجرين والضواحي والأرياف، حيث تسود البطالة. وطالب بالانفتاح على الأسواق، وبمرونة أكبر في قوانين العمل لخلق فرص جديدة، لكنه من ناحية أخرى، دعا إلى “إعادة السيطرة” على الأحياء التي تسيطر عليها شبكات من الإسلاميين المتشددين. فالدولة، وفقه، يجب ألا تكون متساهلة مع من سمّاهم أعداء قيمها، لتكون قادرة على ممارسة السيادة على أراضيها في كل وقت وطمأنة مواطنيها.
إن التوليفة القائمة على الفلسفة والسياسة العملية والحلول الاقتصادية والخطابية المعززة بالثقافة، وهي وجبة مرغوبة لدى الفرنسيين، وبخلو الساحة السياسية من قادة مبادرين ومبتكرين، يبدو تقدّم ماكرون منطقياً. لكن الوجهة التي يتقدم نحوها غير مؤكدة بدقة. فإرث مرشدَيه الفلسفي والاقتصادي، قد لا يسعفه في المرحلة التالية، وربما يجد في نفسه رغبة في قتل أبوَيه بعدما استنفدا مهمتهما. وثمة من يشير إلى البُعد الديغولي في شخصية ماكرون، ونزعته الاستبدادية التي تبرز على السطح بين الحين والآخر، رغم محاولته ضبطها. إلا أن ثمة ما يشير، في نظر الكثير من المراقبين، إلى أن الولاية التالية، إذا ما فاز بها، ستصطبغ بهذا الطابع بقوة، خصوصاً على الصعيد الأوروبي الذي بات مسرحاً جاهزاً لها.
المصدر: موقع المدن