عبد الناصر العايد
بدأ مفاجئاً للبعض، اندفاع “هيئة التحرير الشام” من معاقلها في إدلب، نحو مناطق سيطرة ما يعرف بالجيش الوطني السوري في مدينة عفرين وما حولها، وتقدمها باتجاه أعزاز وجرابلس. تبدو الأمور ضبابية، حتى لحظة تحرير هذا المقال، حول مآل هذه الاندفاع، والنتيجة النهائية له، والتي لا نعتقد أنها مجرد تحرك من طرف الجولاني لاغتنام فرصة سانحة، بل أنها تطور مركزي، في خطة متوافق عليها بين الأطراف الدولية المهيمنة على القضية السورية، أي روسيا وإيران وتركيا.
فهذه التطورات تأتي في سياق إنهاء تدويل القضية السورية، الذي سيفضي إلى تطبيع علاقات النظام بالدويلات الموازية لنظام الأسد، والذي وجدنا علامات مؤكدة حوله في عمليات التفاوض الجارية وفتح المعابر للتبادل الاقتصادي والتحركات السكانية التي ستنتهي باتفاقات بين هذه الدويلات ودويلة النظام، عمادها منح هذه الدويلات الموازية وقادتها مكاسب ومزايا محددة في مقابل الاعتراف -ولو صورياً- بسيادة النظام ورأسه على البلاد. وهذه الخطة بدورها، تأتي في سياق أوسع، هو انسداد الأفق أمام النظام الحاكم في سوريا وداعميه، في ما يخص محاولات تعويمه، إذ تقف بوجهها بقوة دول إقليمية والدول الغربية بالعموم، ولم يعد من سبيل لهذا الهدف سوى بتسوية داخلية تنهي وجود أي قوة خشنة مناهضة للنظام على الأرض السورية، تمهيداً لإنكار وجود أي معارضة أو حالة احتجاج، ولادعاء النظام السيطرة الشاملة على الأرض، الأمر الذي يجعل التعامل معه والتطبيع أمراً واقعاً لا مفر منه.
تتوغل “هيئة تحرير الشام” في مناطق نفوذ أنقرة، خصوصاً في عفرين التي تشكل منطقة ذات حساسية خاصة للأمن القومي التركي، ولديها فيها قوات عسكرية وأمنية، فضلاً عن الفصائل المتحالفة معها. ولن يكون في إمكاننا فهم غض النظر التركي عن هذا كله بمعزل عن التصريحات التركية الأخيرة حول ضرورة إيجاد تسوية في سوريا، تحقق السلام وتضمن وحدة الأراضي السورية. ونستطيع أن نفهم أكثر برصد تحركات الفصائل الأقرب لها، ليتبين لنا أن الأمر ليس مجرد غض نظر، ولا تأييداً لتحرك منفرد من قبل الجولاني، بل إنه حدث مُحضّر له بالكامل، ومُسيطَر عليه من قبل الطرف التركي.
على سبيل المثال، فقد وصلت الشخصية الأكثر غموضاً في المعارضة السورية، والأكثر قرباً من الاستخبارات التركية، أي القيادي في تنظيم الإخوان المسلمين السوري، نذير الحكيم، إلى مناطق سيطرة فصائل الجيش الوطني في 6 أكتوبر/تشرين الأول الحالي، والتقى بقادة عدد من تلك الفصائل. وفي اليوم الثاني، اغتيل الناشط محمد أبو غنوم وزوجته، لتتفجر سلسلة الحوادث التي سمحت للجولاني بالتدخل، بمؤازرة من فصيلَي الحمزات والعمشات فيلق الشام التابع للإخوان المسلمين، فيما عملت هيئة “الثائرون” و”السلطان مراد” على إضعاف صفوف المناهضين له عبر استقطابهم وادعاء الحياد. لكن أقوى المؤشرات على كون الأمر استجابة لرغبة تركية، برز في المفاوضات التي جرت بين الجولاني والفيلق الثالث، والتي حضرها مسؤول تركي طالَب الفيلق، بفصيليه الرئيسيين، الجبهة الشامية وجيش الإسلام، بالرضوخ لشروط الجولاني، وعلى رأسها إنهاء الحالة الفصائلية في الشمال السوري بالكامل، وإدارة هذه المنطقة أمنياً وعسكرياً وسياسياً من قبل جهة واحدة هي هيئة تحرير الشام.
لقد أفضت تلك المفاوضات إلى اتفاق مبدئي غامض لا يتضمن سوى عبارة وحيدة واضحة، هي أن الفيلق الثالث، وهو القوة الوحيد التي ناهضت بالسلاح هيمنة الجولاني، لن يكون مسموحاً له سوى العمل العسكري، وهذا معناه التواجد على خطوط الاشتباك مع النظام وقوات سوريا الديموقراطية، حصراً. أي لن يكون مسموحاً له التصرف كقوة سياسية، ولا بناء قدرات ذاتية مستقلة، خصوصاً على الصعيد الاقتصادي، وهذا سيؤدي مع مرور الوقت إلى الاضمحلال.
لكن السؤال الذي يطرح نفسه بقوة، لارتباطه الوثيق بما سيترتب على سيطرة الجولاني، هو الغاية التركية من دعمه، أي ببساطة ما الذي سيقدمه مقابل هذه الهبة الكبيرة؟
والأرجح أن الجولاني مُنح هذه الجائزة لأسباب ثلاثة:
الأول، هو استجابة لرغبة روسية إيرانية إضافة إلى النظام، وهو أمر قد يبدو غريباً لكنه يبدو معقولاً في سياق إنهاء التدويل آنف الذكر. إذ أن حلول “تحرير الشام” محل المعارضة السياسية كمفاوض للنظام، سيسمح بوصم الثورة بشكل نهائي بأنها ثورة طائفية جهادية، الأمر الذي سيحرمها من أي تعاطف أو دعم إقليمي أو دولي، وسيرسخ بشكل نهائي سردية النظام التي دأب على تأكيدها منذ اليوم الأول في الثورة، وهي أن هدفها إقامة إمارات إسلامية سلفية.
السبب الثاني، هو رغبة الأتراك في ترسيخ التغييرات الديموغرافية التي أحدثتها في منطقة الحدود الجنوبية مع سوريا، لجهة إضعاف الوجود الكردي عبر منح المنطقة لقوة راديكالية يصعب التفاهم معها، ولتصبح عودة الأكراد إلى مناطق مثل عفرين ونواحيها أشبه بحلم غير قابل للتحقيق.
أما السبب الثالث، فهو على صلة بما سبقه، ويأتي في سياق الضغط على قوات سوريا الديموقراطية للتخلي عن تشددها في مسألة الحكم الذاتي. فإذا أصرّت “قسد” على البقاء كياناً مستقلاً، فإن غريمها لن يكون سوى كيان جهادي مستقل أيضاً، له ما له من القوة والنفوذ في مناطق سيطرة “قسد” ذاتها. ويجب ألا ننسى إن جبهة النصرة تم تأسيسها على الأرجح في أرياف دير الزور، وهي ما زالت تتمتع بجمهور هناك، ناهيك عن أن مكوناً أساسياً فيها، وفي قوتها العسكرية والأمنية على وجه التحديد، هو من أبناء تلك المنطقة، وعبرهم يستطيع أن يستوعب فلول تنظيم الدولة الإسلامية المتهالك لكن الذي ما زال حاضراً في شرق سوريا. بعبارة أخرى، سيثقل هذا الحضور للجار الجديد على “قسد”، وسيرغمها على إبداء مرونة أكبر في المفاوضات الجارية بينها وبين النظام، والقبول بحلّ نفسها وإنهاء حلم الحكم الذاتي الكردي في شمال سوريا وجنوب تركيا.
ونعتقد أخيراً أن تركيا في مرحلة التخلص من عدتها السابقة التي صارت لزوم ما لا يلزم، بعدما اعتمدت استراتيجية جديدة في سوريا، فأعفت مسؤولي الملف السوري الثلاثة، من مناصبهم، وحولتهم إلى سفراء، ولا بد أن تعيد النظر في الفصائل التي شكلتها ودعمتها، وأن تجد طريقة للتخلص من أعبائها المالية والإدارية ومشاكلها التي تسبب صداعاً دائماً في أنقرة. ولا يوجد من هو أكفأ لهذه المهمة من الجولاني، الخبير بتفكيك الكيانات الموازية له وابتلاعها، ولا أفضل من تنظيمه القادر على الاعتماد على نفسه والاكتفاء بموارد المناطق التي تُمنح له.
سيحتاج الأمر بضعة أشهر لنرى نتائج سياسية لهذا التطور على صعيد التفاوض بين نظام الأسد و”تحرير الشام”، لكن الآثار الاقتصادية والاجتماعية ستفعل فعلها منذ الآن. فحاضنة الثورة المتبقية في الحيز الأخير، المتمثل في شمال حلب، ستغسل يدها نهائياً من هذه القضية، وسيصبح محور اهتمامها هو سلطة “تحرير الشام”، سواء في تلك المناطق، أو في ما يخص السلطات التي ستتمتع بها إزاء حكومة النظام. وقد نشهد مرحلة من الحشد والترهيب باتجاه “قسد”، وهذا كله بعيد جداً من القضية الأساسية التي انطلقت منها، قبل أكثر من عشر سنوات، ثورة “الحرية والكرامة”. ولعله هذا هو المطلوب اليوم، أي تصفية الثورة السورية بشكل نهائي، عبر جعل تنظيم “القاعدة”، المتحدث الرسمي والمفاوض باسمها.
المصدر: المدن