أولاً: انتظار عشر سنوات مما سمي بالعمل على التطوير والتحديث ومحاربة الفساد دون رؤية أي شيء من ذلك الكلام وتلك الشعارات. بل تضاعف الفساد، بظهور رامي مخلوف إلى العلن وتمدد مشاريعه على مساحة الوطن مشاركاً الدولة والقطاع الخاص ومن حسابهما. ولدى دخولي مجلس الشعب، وعملي في جريدة النور، بدأت تتضح لي صور الفساد المقونن أكثر من ذي قبل، وأدركت أن الفساد الفعلي كائن في دوائر الدولة العليا، وأنْ لا فائدة فالمرض في رأس الهرم. ورحت أعيش الحالة عبئاً ثقيلاً لا تحتمله روحي. ولمّا هبت نسائم الربيع العربي، مرّرت عبارتين عبر زاويتين متتاليتين في جريدة النور. تقول الأولى: “أنْ لا أحد فوق رأسه خيمة” ما يشير إلى أن رياح الربيع العربي ستصل سورية أيضاً، والثانية وكانت المظاهرات قد بدأت فعلاً في سورية: “لا نريد لهذا الوطن أن يكون مزرعة لأحد” في إشارة إلى الفساد وطبيعة حكم الأسرة القائم. وفي نيسان 2011 وقَّعت مع مجموعة من الشباب “نداء من أجل حلب” وجدته يتطابق مع سياسة الحزب، وفي حزيران من العام نفسه أتيح لي أن أقدم مداخلة قصيرة في ندوة أقيمت في حلب كان ضيوفها: المرحوم طيب تيزيني، والدكتور محمد حبش، وقدري جميل.. فقلت حينذاك: على هذه الندوة أن تخرج بتوصيات، وأرى أن تقترح على القيادة العمل لأجل عودة المهجرين، إذ لا يليق بسورية أن يهجَّر شعبها، وقد اعتادت استقبال المهجرين، وأن تعيد الجيش إلى ثكناته (وكان الجيش قد وصل إلى ريف إدلب، وأخذ يفتح الطريق للقوى الأمنية لتعتقل وترتكب ما ترتكبه.) وبلغ عدد المهجرين آنذاك نحو ثلاثة إلى أربعة آلاف معظمهم من جسر الشغور. كان ذلك أواخر حزيران من العام 2011 إذ حدثت القطيعة مع حزبي الشيوعي، ومع جريدة النور التي حذَفَتْ العبارة المتعلقة بالجيش من التحقيق الذي أعددته لها عن الندوة.
ثانياً: قناعتي بأن النظام استنفد طاقاته وقدراته فيكفيه أنه يسير منفرداً على منوال واحد، منذ ما يقرب الأربعين سنة. وهذا مخالف لمقاييس الحياة كلّها، ولمحتوى حركة التاريخ، والطبيعة، والدنيا. فقوانين المجتمعات والأكوان، الأرضية منها والسماوية، تقول بالتغيّر والتبدّل والتجدّد. وحتى أن بعض القائمين على الحكم قد رأوا ذلك، وأشاروا إليه، مراراً، إضافة إلى أناس كثيرين: أحزاباً وجماعات وأفراداً. لكنّ المعنيين، ظلّوا مسترخين، متنعمين بما هم فيه، منكرين على الشاكين آهاتهم وأناتهم.
ثالثاً: ما يدعم تلك القناعة أنَّ التنمية قد توقفت منذ الثمانينيات، فقد كانت الأمور تمشي بطيئة، رتيبة، في وقت أطبقت فيه قبضة الجيش على المجتمع، وأخذت البيروقراطية تشييد القصور، وتجمع التحف، سرقة أو شراء، وأوجدت لها شراكات مع لصوص وطفيليين للقيام بمشاريع خدمية، تدخل في ما يسمى بالاقتصاد الريعي، وغالباً ما يكون نصف تكلفتها، إن لم يكن كلها، من خزينة الدولة في وقت أَنْهَكَتْ فيه القطاعَ العام إداراتٌ بعثية غير كفوءة ونهَّابة أيضاً. وزاد حجم البطالة بين الشباب، والخريجين منهم على نحو خاص، ودُفعت العمالة السورية إلى خارج وطنها، وهدرت بذلك خبراتها وقدراتها الإبداعية…!
رابعاً: تفاقم ظواهر التخلف الشامل، والحنين إلى خمسينيات القرن الماضي، وللمثال أقول: إن واحدة من جامعاتنا الرسمية (تشرين) جاء ترتيبها في العام 2010 ثمانية آلاف بين جامعات العالم. ومعروف أن أبجدية التقدم والتطور تبدأ من المدرسة والجامعة. وأن مشروعاً إنشائياً في حلب استمر سبعة وعشرين عاماً (القصر البلدي) ومدة عقده التنفيذي أربع سنوات. ومثل ذلك تأخير عدد كبير من المشافي في المدن (المناطق) أما المثال الفاقع فاقتلاع المقرَّبين من القصر الجمهوري أشجار حديقة في قلب مدينة حلب (المنشية القديمة) ليحّوِّلها مرآباً ومكاتب تجارية، تدرُّ عليه ملايين الليرات يومياً. واستكمالاً لصورة التخلف وبشاعته، يمكن إضافة سرقات المحافظين العلنية مع همس بين العامة يقول بأن عليهم جزية شهرية يجب دفعها…!
خامساً: ما كان لكل ذلك أن يحصل لولا احتكار السياسة، وتعطيل حركتها، ومصادرة شارعها، وقمع أحزابها، حتى هؤلاء الذين مالوا مع النظام، ووجدوا ما يقنعون به قواعدهم، إن كان لهم قواعد بالمعنى الحقيقي للكلمة، فقد قُزّموا ولم يصلح قادتهم لأكثر من «مستشارين» احتياطيين، لا يؤخذ برأيهم، بل يطلب إليهم وقت الضرورة، أن يقوموا بكذا وكذا من أعمال تخدم من لهم السيادة والقيادة.
سادساً: سطوة الأمن في ظل حالة الطوارئ المستمرة منذ عقود، وتوغل أجهزته المتعددة في جسد المجتمع وروحه، وتدخلها في حياة المواطنين الخاصة، وخروجها عن مهامها الأساسية، لتساهم في تعميق ظواهر الفساد، وابتزاز المواطنين، وتخريب العلاقات الاجتماعية بوقوفها إلى جانب الأقوى وغالباً ما يكون الأقوى صاحب قرار أو مال، ما دعا المرحوم طيب تيزيني ليطلق اسم الدولة الأمنية على بنية النظام السوري…؟!
سابعاً: وصول الاستبداد إلى طريق مقفلة على غير صعيد، إذ ما من سبيل لحياة الدولة والمجتمع إلا بتكنيسه، والانتقال إلى نظام عصري، مدني، تعددي، تُتداول فيه السلطة استناداً إلى انتخابات ديمقراطية حرة يمارسها شعبنا كما حال معظم أمم الأرض. انتخابات تأتي عبر نشاط سياسي علني مصون بالقانون. وللأمانة أقول: إن الحزب الذي كنت فيه كان إلى جانب هذا الطرح، ويعلنه في أدبياته والمنابر المتاحة، ولكنه لم يكن ليقدم على خطوة جريئة تقطع مع النظام، ما أضاع صوته، وهنا بيت القصيد، والأسباب كثيرة، لا مجال للدخول فيها الآن…!
ثامناً وأخيراً: لست نادماً على خطوتي الأخيرة رغم ما آلت إليه الثورة، وما عانته من أبنائها، وما علق بها من أدران، ومن تسلَّط عليها من لصوص ومرتزقة وأغراب وقتلة. فقد يكون هذا الأمر طبيعياً في مجتمع ظل مقموعاً مدة أربعين عاماً متتالية. ولا شك في أن النظام مسؤول رئيس في كل ما حدث…! كما أنني لست نادماً على حياتي التي منحتها للحزب الشيوعي، وأمضيتها في سبيل حلم سورية الأفضل والأجمل، وأحسب أنني بقيت وفياً للمبادئ الوطنية وللعدالة الاجتماعية التي تربيت عليهما، وناضلت من أجلها، أما الخلاصة فلا بديل عن الحرية الكاملة لسورية وشعبها، والبداية، رغم الصعوبات المتوقعة، لن تكون إلا برحيل النظام أولاً…!