جسر-عقيل حسين
مرة أخرى ترفض جماعة “الأخوان المسلمين” السورية تقديم اعتذار عن خطأ، عندما أصدرت بياناً رسمياً تتبرأ فيه، ولا تعتذر، من تصريحات القيادي “السابق” فيها ملهم دروبي، بخصوص السوريين المقيمين في تركيا.
تعرض الدروبي لهجوم عنيف في مواقع التواصل الاجتماعي بسبب وصفه “الضيوف” السوريين في تركيا بـ”الجهل وقلة الذوق”، بالتزامن مع التوجه الجديد للحكومة التركية حيال السوريين المقيمين على أراضيها، والقرارات الأخيرة التي تزيد من التضييق عليهم.
حملة الانتقاد طالت “الجماعة” بشكل عام، إذ لم يكن ممكناً التمييز بين الدروبي كشخص، وبين “الأخوان”، على الرغم من إصرارهم على أن الدروبي لا يمثلهم.
قبل البيان الصادر عن الجماعة بهذا الشأن، قلة من الأعضاء أو المناصرين من أقر بالخطأ الذي ارتكبه الدروبي، بينما كان موقف الغالبية منهم دفاعياً تبريرياً. إذ لطالما أجاد “الأخوان” استخدام هذه اللغة، معتمدين على سلاح المظلومية، والاستعداد الدائم للتحول من الدفاع إلى الهجوم، بحيث يصبح كل منتقد لـ”الأخوان” إما جاهلاً أو حاقداً، لا بحق الجماعة، بل بحق الاسلام أيضاً(!!) على الرغم من أن الانتقاد الواسع الأخير للجماعة، كان من العموم وليس نخبوياً، بحيث يمكن وصفه بـ”الموجّه” أو الغائي.
الانتقاد ظهر بقوة في الحاضنة الشعبية للثورة السورية، وغالباً من المسلمين السُنّة، الذين لطالما تعاطفوا مع “الأخوان”. وعندما يهاجم هؤلاء “الأخوان” اليوم، فإن دافعهم هو الضيق الكبير من تصريحات الدروبي، المتزامنة في الوقت نفسه مع تصريحات نائب رئيس “المكتب السياسي” في “حركة حماس”، خلال زيارته الأخيرة إلى طهران. القيادي في “حماس”، التي كانت دائماً محل تعاطف ومناصرة من قبل جمهور المعارضة السورية، أعلن من طهران استعداد “الحركة” لتكون في الصف الأول دفاعاً عن النظام الإيراني، الذي أمعن في قتل السوريين وتهجيرهم، وتغيير ديموغرافية بلدهم، باستخدام كل الأسلحة العسكرية والاقتصادية والسياسية!.
ثالثة الأثافي جاءت مع فيديوهات الحفل السنوي لـ”منظومة وطن الاغاثية” التابعة عملياً لـ”الإخوان” رغم النفي الرسمي للعلاقة بينهما. الحفل جاء في اليوم ذاته الذي شهد مقتل 50 مدنياً من أبناء ريف إدلب، جراء حملة القصف الروسية الأخيرة، ما فجّر غضباً عارماً، اضطرت معه إدارة المنظمة للاعتذار أيضاً. لكن، ومثل كل مرة، جاء الاعتذار اخوانياً بامتياز، بعدما سبقه هجوم مضاد من مسؤولي المنظمة على منتقديهم، ثم اعتذاراً مليئاً بالتبرير والدفاع.
لكن، إذا خرجنا من دائرة التعليق والتوصيف، وانتقلنا إلى التحليل والتشخيص، فسنجد أن ما يعاني منه “الأخوان المسلمون” اليوم هو أعراض ومضاعفات لمشكلة قديمة وعميقة لدى الجماعة في سوريا. فلا هي قادرة على الاعتراف بالمشكلة علناً، رغم إيمانها بوجودها، ولا هي قادرة على علاجها. والمشكلة هي أزمة جوهرها باختصار “الطهرانية المتخيلة” وعقدة الاضطهاد.
إذ تقوم سياسة الاخوان السوريون منذ بداية الثورة السورية على ثلاثة أعمدة أساسية؛ التغلغل الهادئ والسيطرة غير المباشرة، منذ بداية تواصل الجماعة مع التنسيقيات ومن ثم مع الكتائب والمجموعات المسلحة، ومع المؤسسات السياسية والخدمية للثورة إن كان في “المجلس الوطني” و”الإئتلاف” أو المجالس المحلية. وما قام به “الأخوان” للسيطرة على تلك المؤسسات أو استتباعها، باستخدام المال والنفوذ والقدرات الخاصة التي تملكها الجماعة وتتفوق بها على غيرها من القوى السياسية السورية يعرفه كل مطلع على تفاصيل العمل في هذه المؤسسات.
العمود الثاني، يقوم على سياسة الانكار والاختباء خلف اسماء أو قوى، منها الاخواني السابق المنفصل عن الجماعة لخلافات تنظيمية لكنه مستمر بالارتباط الايديولوجي معها، ومنها المفصول من الجماعة من أجل هذه الغاية بحد ذاتها، أي من أجل القيام بهذا الدور، بعض الواجهات ليست اخوانية، لكنها مرتبطة بالاخوان فكرياً واقتصادياً. ويبدو ذلك، تكتيكاً واضحاً لتسهيل التبرؤ من الأخطاء، وربما استغلالها أيضاً لتحقيق مكاسب سياسية وشعبية.
وقد درج الأخوان منذ بداية الثورة على انكار اخوانيتهم في مختلف المجالات السياسية والعسكرية والاغاثية والاعلامية، بحيث أنكرت الجماعة بشكل دائم علاقتها بالفصائل المسلحة التي شكلتها، وبالقيادات السياسية التي صدرتها، وبالجمعيات والمنظمات ووسائل الاعلام التي أنشأتها، حتى درج بين السوريين مثل ساخر يقول: “حتى المرشد العام للاخوان ليس من الإخوان”.
العمود الثالث، هو التجاهل والإصرار على مواصلة العمل بالطريقة ذاتها مهما تراكمت الأخطاء، ومن دون ايلاء أي اهتمام لردود الفعل. وبموازاة ذلك، مواجهة أي انتقاد أو كل منتقد بهجوم مضاد، يعمل على ترسيخ التماهي بين الإسلام كدين وبين الأخوان كجماعة حاملة للعقيدة وممثلة لها. ولا يعني ذلك أن الأخوان لم يتراجعوا في بعض الملفات، أو يقروا ببعض الأخطاء، إلا أن ذلك ظلّ دائماً على مستوى التفاصيل الصغيرة، من دون أن يعقبه تغيير أو مساءلة، وطبعاً من دون المساس بالقضايا الكبرى والمحورية. وهذه سياسة يجتمع فيها الأخوان مع مختلف الجماعات الإسلامية السياسية، التي نادراً ما تقوم بمراجعات حقيقية تقطع بها مع الأفكار والتوجهات التي تلحق الضرر لا بالجماعة فحسب، بل وبالمجتمعات التي تنشط فيها، على الرغم من النجاحات الكبيرة لمن قام بذلك منها.
فعلى العكس من هذا السياق، تمكن “حزب النهضة”، فرع الجماعة في تونس، من انجاز مراجعات حقيقية، نجح معها في تحقيق انجازات كبيرة. حتى الأخوان في مصر، الذين يفترض أن يكونوا أصحاب “المظلومية الأكبر”، يعلنون باستمرار منذ العام 2013، استعدادهم لاجراء مراجعات. قيادات اخوانية مصرية بدأت بالفعل العمل على ذلك. وحدهم الأخوان في سوريا يستغلون “المظلومية” للهجوم على كل من ينتقدهم، لوضعهم في سلة الجهل أو الحقد أو العمالة للأنظمة والمحاور الاقليمية، رغم أن الجماعة السورية هي أكثر من التحق بسياسة المحاور، حتى باتت غير قادرة على إصدار بيان واضح تقف فيه إلى جانب السوريين في تركيا، ومناقشة السياسات الجديدة المتبعة بحقهم، أو حتى إعلان موقف حازم مما يحدث في منطقة “خفض التصعيد” في إدلب المضمونة من قبل أنقرة، الأمر الذي بات شديد الضرر بالاخوان السوريين، إذ لم يترك لهم مساحة للمناورة.
الغضب الحالي من “الأخوان” السوريين، يأتي باعتبارهم حزباً يعمل في السياسة والشأن العام، وليس لأنهم “أخوان” أو مسلمين. وعلى هذا، فعلى الجماعة أن تنزل من الشجرة العالية التي تسلقتها بنفسها، فأصبحت عالقة، لا هي تستطيع الاستمرار بالصعود، ولا هي تقبل أن تعود إلى الأرض.