كان الفيلسوف الألماني “فريدريش هيغل” يرى أن الثورات والحروب هي محرك التقدم والتطور، أما السلام والاستقرار فلا يمكن أن يخدما سيرورة التاريخ وحركته.
من هذا المنطلق أيد هيغل بشدة الثورة الفرنسية عام 1789، على الرغم من الأحداث المريرة التي رافقتها والدماء الغزيرة التي سالت على جدران سنينها المتقلبة، بل وذهب أبعد من ذلك حين كان من أشد المتحمسين لمغامرات نابليون الأول الأوروبية، باعتباره “بطل توحيد القارة المنتظر”، وعليه فقد رفض الفيلسوف الكبير مغادرة المدينة التي كان يقيم ويدّرس فيها عندما اجتاحها جيش نابليون، ومنها أرسل برقيات لأصدقائه يعبر فيها عن سعادته الغامرة برؤية نابليون العظيم شخصياً وهو يختال في المدينة التي لم تتعرض لأي سوء (حتى تلك اللحظة).
لكن بعد أيام فقط أطلق الجيش الفرنسي لنفسه العنان في المدينة التي تعرضت لعملية نهب واسعة طالت كل شيء فيها، بما في ذلك منزل هيغل نفسه ومكتبته، التي لم ينج منها سوى كتاب واحد كان منكباً على تأليفه، وفر به الرجل مذعوراً من هول المشاهد التي رآها أخيراً والتي ستغير موقفه من الثورات والحروب فيما بعد.
لم يتراجع هيغل عن الإيمان بمبدئه الأولي (الثورات والحروب هي محرك التاريخ) فهذا المبدأ ليس نظرية هيغلية بالأصل، بل نتيجة مستخلصة من فلسفة التاريخ البشري، استنتجها هيغل، أو لنقل أقرها لمن سبقه إليها من قبل، وبالتالي هي حقيقة، أو على الأقل نظرية، لكنه انقلب بعد ذلك محافظاً يشعر بالذنب تجاه حماسه الشديد للتجربة الفرنسية، وينشد الاستجابة للجدلية التاريخية في التغيير، ولكن من خلال النخب والحكام المتنورين، أو بأي طريقة تجنب العنف والكوارث التي تسببها الثورات والحروب، هذه الحروب التي يؤكد في الوقت نفسه بأنه “سيكون لا بد منها في النهاية إذا لم يتحقق التغيير بالطرق السلمية”.
يشبه هيغل في موقفه المتردد بين الغاية والوسيلة، بعد أول تجربة مؤلمة، موقف الكثير من نخب وناشطي ثورات الربيع العربي اليوم، بعد النتائج غير المريحة التي أسفر عنها حتى الآن، والأثمان الباهظة التي دفعتها وما تزال ثلاثة دول على الأقل منذ العام 2011، هي ليبيا وسوريا واليمن، إلى جانب تجربة العراق السابقة والمفتوحة حتى الآن بطبيعة الحال.
فأمام هيمنة التيارات الدينية وقوى العسكر على المشهد في دول الجمهوريات العربية التي شهدت ثورات وانتفاضات شعبية ضد الأنظمة المستبدة الحاكمة، وإزاء الجرائم التي ارتكبت وراح ضحيتها مئات الآلاف من القتلى والجرحى وملايين المهجرين، ناهيك عن الدمار الهائل في البنى التحتية والاقتصاد، إلى جانب طبعاً انسداد الأفق، على الأقل نظرياً، أمام أي محاولات للتغيير حتى الآن، يجد الكثير من ناشطي الثورات العربية أنفسهم أمام أزمة نفسية وأخلاقية معقدة.
فهل علينا أن نتجاهل كل هذه المآسي والويلات وأن نستمر في الدعوة للثورات والانتفاضات الشعبية في كل مكان آخر يحكم فيه الاستبداد، حتى إسقاط الأنظمة العسكرية والعائلية المتحكمة ببلادنا مهما كانت التضحيات والأثمان، مع توقع استماتة هذه الأنظمة في الدفاع عن عروشها واستخدامها كل الوسائل الممكنة لإدامة حكمها، ما يعني مزيداً من الفوضى والدمار وشلالات دماء جديدة؟
أم أنه علينا القبول بالأمر الواقع مجدداً والعمل على التغيير البطيء وبعيد المدى في العالم العربي، من خلال التركيز على نشر الثقافة الديمقراطية والوعي السياسي والاجتماعي، والاستفادة القصوى من الوسائل التي أتاحتها الثورة الرقمية وشبكة الإنترنت في تحقيق ذلك، خاصة وسائل التواصل الاجتماعي التي أصبحت خارج سيطرة الأنظمة والحكومات إلى حد معقول، وانتظار فرص تاريخية ممكنة لإحداث النقلة النوعية، وهو أمر يحتاج للكثير من الصبر والعمل الدؤوب من قبل النخب الفكرية والاجتماعية المؤمنة بنفسها وبأمتها وبإمكانية التغيير السلمي، مع توقع أيضاً مجابهة عنيفة وحرب شرسة، أمنية بالدرجة الأولى، من قبل الأنظمة التي يحكمها الخوف بقدر ما تحكم بالخوف ؟
سؤال كان يمثل دوامة بكل ما تعنيه الكلمة لمن يطرحه أو لمن يحاول الإجابة عنه، إلى الحد الذي يمكن القول إنه مثل أزمة نفسية يمكن أن نطلق عليها اسم (متلازمة هيغل)، إذ إن كلا الإجابتين تحملان قدراً كبير من الإشكال، وتتضمنان في داخلهما نقداً واضحاً يكفي لكي يجعل منهما غير موضوعيتين أو حتى مقبولتين أصلاً، في ظل انقسام حاد بين الشعوب، وحتى بين النخب ذاتها حيال كل إجابة من هاتين الإجابتين، الأمر الذي جعل الأفق العربي أكثر انسداداً بالفعل، وأخرج قوى الثورة الحقيقية من ساحة الفعل التي استولت عليها قوى عسكرية ودينية واجتماعية تقليدية مجدداً، إلى الحد الذي بدا معه أن الربيع العربي انتهى بالفعل وفشل بتحقيق أي نتائج يمكن أن تجعله مرشحاً للاستمرار.
لكنّ الانتفاضتين الشعبيتين السلميتين في كل من الجزائر والسودان أعادتا الروح من جديد لهذا الربيع الثوري العربي، ومنحت نتائج هاتين الانتفاضتين دفقة حياة جديدة لقوى الثورة وناشطيها على امتداد البلدان التي شهدت ثورات عامي 2010 و 2011، وجددتا الأمل في قدرة الشعوب على التغيير وكسر الجمود الذي هيمن على المشهد منذ نجاح الأنظمة، بالتشارك مع قوى الثورة المضادة، في تحويل الثورات إلى حروب أهلية أو طائفية، ثم أصبحت بمرور الوقت عبثية وغير مفهومة، كما هو الحال في اليمن وليبيا، وفي سوريا بالطبع!.
لكن هل حقاً نجحت الانتفاضتان أو الثورتان الشعبيتان في كل من الجزائر والسودان في تحقيق أهدافهما بالفعل، وهل سيصل البلدان إلى التغيير الديمقراطي الكامل والناجز، خاصة في السودان بعد توقيع وثيقة التفاهم التاريخية بين الجيش وقوى التغيير؟!
في الواقع يبدو التخوف من دور العسكر بديهياً ومشروعاً طالما أنهم ما زالوا يستحوذون على القوة المطلقة، وهو السبب الذي يكفي من وجهة نظر الكثيرين لمطالبة الثوار في الجزائر والسودان بالتمسك بساحات الاعتصام واستمرار النضال حتى التخلص من كل رموز ووجوه وشخصيات النظام القائم، وإلا فإن هذا سيعني استبدال رأس برأس آخر مع استمرار نفس النظام، وفي النهاية تقديم خدمة كبيرة للجيش الذي يكون بذلك قد حصد نتيجة ثمار الثورة وتخلص من زعيم أصبح يشكل عبئاً على المؤسسة العسكرية التي تعتبر، بالنسبة للكثيرين، أصل الداء الاستبدادي في بلادنا.
لكن هذه النظرة تغفل تجربة أخرى قريبة، ويمكن القول إنها ناجحة بقدر معقول حتى الآن، وهي التجربة التونسية، التي خطت في السنوات الثمانية الماضية خطوات ثقيلة، لكنها مهمة، باتجاه النظام الديمقراطي الناجز، وهو أمر لم يكن ليتحقق بطبيعة الحال لولا رضى وحماية مؤسسة الجيش في هذا البلد للتحول السياسي الذي تحقق حتى الآن.
ومع أن هناك فوارق بين موقفي الجيشين السوداني والتونسي من الثورة في البلدين، حيث أبدى الأخير سلاسة كبيرة في الاستجابة لمطالب الشعب دون تسجيل أي تدخل أو عرقلة معتبرة، بينما أبدى الأول عناداً وحاول التلاعب بالأوراق طيلة الأشهر الماضية من أجل الحفاظ على كل المكاسب الممكنة قبل أن ينصاع أخيرا لحل وسط، إلا أن واقع الحال في البلدين الشقيقين لا يؤكد فقط قابلية الوطن العربي للتحول الديمقراطي السلمي، بل وكذلك يؤكد أن ليس كل الجيوش العربية على سوية واحدة وهذا ما يحتاج إلى دراسات لبنية الجيوش وعقيدتها العسكرية واستعداداتها في كل بلد من بلدان العالم العربي.
الكاتب: عقيل حسين ـ موقع تلفزيون سوريا