جسر:صحافة:
للتذكير أولا نفى السفير الأميركي في سوريا جول رايبرن في تشرين الأول المنصرم شائعات تتحدث عن تحرك بلاده لإطلاق خطة استثمار في النفط السوري عبر “الإدارة الذاتية” في شرق الفرات وقال إن ما تحرص عليه الإدارة الأميركية هو منع وصول نظام الأسد للمصادر النفطية واستخدامها في حربه ضد الشعب السوري، وأن حال حقول النفط سيبقى على وضعه القائم، إلى حين إيجاد حلّ دائم للقضية السورية.
وفيما كان الرئيس التركي أردوغان يقول إنه عرض على نظيره الروسي إعادة إنشاء البنية السورية من خلال النفط المستخرج ومساعدة سوريا المدمرة في الوقوف على قدميها. وعندما كان بوتين يدرس العرض الذي قال أردوغان إنه يعد لتقديم تصور مشابه له لنظيره الأميركي تحركت واشنطن للإعلان عن عقود نفطية وخدماتية بين شركة أميركية و”قسد” لتسويق النفط وتطوير الحقول السورية الواقعة تحت سيطرتها.
واشنطن هي التي قادت المفاوضات والدليل أن شركة “دلتا كريسنت إنرجي” الأميركية التي وقعت الاتفاق ومقرها الشارقة تقول إن الأمور جرت بعلم البيت الأبيض وبدعم منه وأن وزير الخارجية الاميركي بومبيو يقول “لقد استغرقت الصفقة وقتا أطول مما كنا نأمل ونحن الآن في مرحلة التنفيذ”. التأخير سببه بحث سبل الالتفاف على تدابير “قانون قيصر” ضد النظام.
“قسد” تحاول الهروب من المشهد. دمشق وموسكو وطهران وأنقرة رفضت الاتفاق واعتبرته “انتهاكاً لسيادة سوريا وسرقة لثرواتها”. الكثير من العواصم العربية والجامعة تحديدا لا علم لها بما يجري، لكن المؤكد هو أن هذا العقد “التجاري” سيمنح مجموعات “قسد” الثقل التفاوضي السياسي مع بقية الأطراف المحلية والإقليمية من أجل تحقيق المطالب وتخزين المزيد من المكتسبات. لكنه وهنا الأهم سيضعف النفوذ والفرص الروسية في مشروع إعادة تسليم كل سوريا للنظام وسيترك أنقرة أمام الخيار الوحيد إبقاء الأصبع على الزناد لحماية الإنجازات الميدانية التي حققتها في شمال سوريا وسيكون ورقة إيران السورية التي ستتنازل عنها لصالح واشنطن والأكراد في مفاوضات حماية الرأس.
دمشق “أدانت الاتفاق بأشد العبارات” وقالت إنها تعتبره باطلا ولاغيا ولا أثر قانونيا له. فهل تنجح الورقة الأخيرة المتبقية بيد النظام وهي تحريك العشائر والقبائل العربية في المنطقة للتمرد على هذه الاتفاقيات؟
الصفقة أغضبت أنقرة ودفعتها لوصف ما جرى بمحاولة “استيلاء على ثروات الشعب السوري وخطوة لتمويل الإرهاب”. كيف لا وأنقرة التي كانت تفاوض الروس والأميركيين على الموضوع لتمويل مشروع “المنطقة الامنة ” تجد نفسها أمام مأزق كشف النقاب في القامشلي عن اتصالات ومفاوضات بين “قسد” من جهة والروس والأميركيين من جهة أخرى للمشاركة في خطط التمويل والاستثمار النفطي والخدماتي الذي ينعش المنطقة ويطورها تماما على الطريقة الكردية في شمال العراق.
موسكو هي الأخرى تعيش خيبة أمل بعدما كانت إلهام أحمد القيادية في “قسد” تقول إنهم لا يرغبون في أن تسيطر الولايات المتحدة الأميركية على حقول النفط، وعلّقت في حديث لها مع الإعلام الروسي، على قرار الولايات المتحدة البقاء في حقول النفط بالقول: “مجرد كلام، لا شيء على أرض الواقع”. موسكو تقول إنه تصرف قطاع طرق بعدما كانت أعدت لقسد وأكراد سوريا مسودة دستور انفصالي لم يعجب واشنطن على ما يبدو. سيطرة واشنطن على الخزان النفطي السوري، يحرم موسكو من الحصول على القسم الأكبر من الكعكة الاقتصادية السورية الذي كانت تمني النفس به.
دلالات الاتفاق كثيرة: تعزيز الحضور والنفوذ الأميركي في سوريا، وتمكين “قوات سوريا الديمقراطية” مالياً وجيوسياسياً، لقطع الطريق أمام النظام في الحصول على النفط المنتج بشمال سوريا عن طريق التهريب، تساهم في مضاعفة إنتاج النفط في هذه المنطقة إلى أكثر من 150 ألف برميل يومياً بحسب التقديرات. واشنطن وعبر وضع موطئ قدم للشركات الأميركية في سوريا وبناء علاقات استراتيجية مع الأكراد السوريين و”قسد” تكون بذلك قد كرست نفوذها على نحو 80 في المئة من الثروة النفطية السورية، إضافة إلى 45 في المئة من إنتاج الغاز الطبيعي.
من الذي سيشارك في عملية التصدير والتسويق. الجغرافيا المجاورة هي التي ستحدد ذلك في المرحلة المقبلة: دمشق بحلتها الجديدة أم العراق بشراكة مناصفة بين بغداد وأربيل أم أنَّ واشنطن ستحاول إقناع أنقرة بفوائد بمشروع سياسي اقتصادي تجاري متعدد الجوانب في السنوات المقبلة على طريقة ما جرى في شمال العراق؟ الحصة الإسرائيلية محمية دائما في الإنتاج والتكرير.
هل ستتراجع موسكو وأنقرة وطهران بمثل هذه السهولة؟ العواصم العربية وجامعتها منشغلة بمطاردة تركيا في ليبيا وشرق المتوسط وبحر إيجه ولبنان لا وقت عندها لمناقشة مصير ومستقبل دولة عربية مثل سوريا يتم تقاسم النفوذ على ثرواتها النفطية والمائية والزراعية.
الخطوة المقبلة المرتقبة باسم “وحدات الحماية” هي التحرك نحو السيطرة على الثروة المائية السورية ومحاولة التحكم بمياه نهري دجلة والفرات أهم الموارد المائية في البلاد. “قسد” تريد السيطرة على السدود ومجرى النهرين في سوريا والإمساك بورقة الخزان الزراعي السوري بعد الهيمنة على الخزان النفطي. هي تبحث الآن عن شريك يمثل إسرائيل ويحمي مشروعها الإقليمي المائي بعدما فشلت في منتصف التسعينيات بإقناع أنقرة في مقاسمتها خطط إنماء جنوب شرق تركيا “غاب”، التكنولوجيا الزراعية الإسرائيلية مقابل المياه. وهي اليوم ستفعل ذلك في شمال شرق سوريا حتماً لضرب أكثر من عصفور بحجر واحد.
بعد التجربة العراقية، مرة أخرى ينجح أكراد المنطقة في سوريا هذه المرة في تدوير الزوايا الإقليمية والدولية وتحويل ما يجري إلى ثقل سياسي وأمني واقتصادي يدفع نحو ولادة المشروع الكردي الانفصالي فعناصر الدولة لم تعد هي تلك الكلاسيكية المتفق عليها حتى الأمس، الأرض والشعب والسلطة السياسية والسيادة والاعتراف.
يحلو لبعض وسائل الإعلام العربية التي لا علم لها حتى الآن باتفاقية التطبيع الإسرائيلي الإماراتي ومن أجل تشتيت الانتباه تقديم ما جرى على أنه هزيمة لتركيا ومشروعها في سوريا؟ الأرض سورية، السيادة سورية، المال والثروات سورية، وما يجري هو في العمق السوري فلماذا تكون أنقرة هي المتضرر الأكبر من المشروع؟
ذريعة أن سوريا دولة منقوصة السيادة لذلك تفعل “قسد” ما تريده في شرق البلاد، مسألة تناقش مع بعض العواصم العربية والميليشيات الإيرانية في سوريا التي أعلنت اصطفافها مع هذه المجموعات قبل عامين لمواجهة النفوذ التركي فمع من ستتعاون هذه المرة إذا ما كانت راغبة في الرد على الخطوة؟ هل سيتحرك حلفاء “قسد” في العواصم العربية ضد المشروع؟ هل ستقول جامعة الدول العربية التي تطارد كل شاردة وواردة في التحرك التركي الإقليمي شيئا ما؟
المثلثات الكردية في سوريا تكاد تكتمل:
الهيمنة على الطاقة والزراعة والمياه.
الاستقواء بواشنطن وتل أبيب وتحييد الجامعة العربية.
الاستفادة من عناد النظام وتفكك المعارضة وفشل التفاهمات التركية الروسية الإيرانية.
دارا مصطفى قيادي في “حزب الاتحاد الديمقراطي” يدعو إلى عدم المبالغة في التحليل والتقدير خدمة نقدمها لسوريا ولشعبها”.
” قسد ” حاربت داعش والجائزة هي النفط السوري بقرار أميركي.
إذا لم يتحرك الشعب السوري خلال أشهر لإيجاد مخرج فلن يحتاج إلى ثورته التي ستفقد الكثير بعدما يفقد ثروته.