جسر – صحافة
من بين الإشارات والحرتقات التي أطلقها جبران باسيل في كلمته الافتتاحية للعام الجديد يبرز قوله: “كان يمكن الانتصار في 17 تشرين لو كانت التظاهرات صادقة، ولكن الجانب المسيّر في الثورة عمل على استهدافنا، وصعّد بوجهنا، ولكننا صمدنا على الرغم من الهجمة الكونية علينا. وثباتنا أعطانا القوة وحولنا إلى ضحية لمؤامراتهم”. وهذه ليست نكتة؛ أن يتحدث شخص بحجم باسيل، هو جزء من منظومة سياسية في بلد صغير، بوصفه ضحية مؤامرة كونية.
قبل يومين أيضاً، ومن دون أن يُقدَّم ذلك كاستهلال للعام الجديد الذي يحتفل بقدومه “الكفار”، قال المتحدث باسم طالبان بالوكالة إنعام الله سمنجاني أن إمارة أفغانستان الإسلامية ليست بحاجة إلى اعتراف المجتمع الدولي بها، بل العالم هو من يحتاج إلى ذلك. محذِّراً في الوقت نفسه من عواقب وخيمة إذا لم يستدرك المجتمع الدولي خطأه هذا!
وسط المؤامرة الكونية العظمى، وجد بشار العزاء بمعايدة بوتين له بالعام الجديد. في برقيته، ألقى بوتين بنسخته الخاصة من الحديث عن المؤامرة الكونية، إذ أكد أنه سيواصل “تقديم الدعم الشامل لسوريا الصديقة في الحرب ضد الإرهاب الدولي”. ولأن بشار الأسد لم يعد مضطراً للتأكيد على هذه البديهية، فقد اكتفى في البرقية الجوابية بأن تمنى مزيداً من التألق للعلاقات الثنائية، مشيداً بالتعاون الثنائي “الذي يحقق نجاحات باهرة، ويترك آثاراً إيجابية على حياة الشعبين الصديقين”.
لسلطة الأسد باع طويل جداً في الحديث عن المؤامرة الكونية والتصدي لها، باع أطول بالتأكيد مما لجبران باسيل المستجد في موقع الضحية، ومما لحركة طالبان التي استعادت قبل خمسة شهور هذا الموقع بعد انقطاع دام عشرين سنة بين حكمها الأول وحكمها الراهن. المؤامرة الكونية التي تستهدف الأسد بدأت منذ نهاية السبعينات في القرن الماضي، ولم يتوقف أقطابها عن تكرار المحاولة رغم فشلهم المتكرر في تحقيق مآربهم، وبناء على هذا التاريخ من الفشل لا يُتوقع منهم أن يتعظوا ويرتدعوا بصمود الأسد.
من القاموس ذاته يغرف إنعام الله سمنجاني بقوله أن العالم هو من يحتاج إلى الاعتراف بإمارته الإسلامية، ففي وسع طالبان أن تشطب العالم من دائرة اهتمامها، أن تعتبره بلا وجود ولا تأثير. لقد فعلها من قبل وزير خارجية الأسد، وذهبت مثّلاً ونكتة، عندما قال أنه محا أوروبا من الخارطة. والحق أنه لم يكن يتظارف، فهو لسان حال سلطته التي بحلقتها الضيقة لا يضيرها محو أوروبا من خارطتها، سوى لجهة حرمان أقطابها من تسوق الألبسة والعطورات مباشرة من الأسواق الأوروبية، وهي تضحية يمكن تحملها لمن يتنطع لدور الضحية العظمى للمؤامرة الكونية الكبرى.
حسب أقوال باسيل، هو وتياره ضحية المؤامرة الكونية بشقيها الداخلي والخارجي، فمظاهرات انتفاضة 17 تشرين لم تكن صادقة لذا استهدفته، وهي بموجب كلمة نهاية العام لميشال عون تسترت من أجل هذا الاستهداف وراء شعار “كلن يعني كلن”، ثم أتت العقوبات الأمريكية على باسيل لتُستكمل حلقة التآمر. وكما نعلم منذ بداية المظاهرات في سوريا اعتبر بشار المشاركين فيها خونة وعملاء للمؤامرة التي تُحاك من الخارج، فالمتظاهر لا يمكن إلا أن يكون مسيَّراً وموجّهاً من قوى أنزلته إلى الشارع لتنفيذ مآربها، مع استثناء بعض المتظاهرين السذّج الذين تنطلي عليهم اللعبة، وللأخيرين مطالب في الأصل بسيطة جداً، ولا يعدو تظاهرهم كونه تعبيراً نزقاً طارئاً عن تذمرهم المعتاد.
جبران باسيل ليس استثناء ضمن المنظومة اللبنانية، أو ضمن تقمص أيّ من المشاركين فيها موقع الضحية، وإن كانت له ولتياره من قبل ميزة التظلم من كل المواقع، من موقعه في السلطة والمنفى والمعارضة ثم السلطة. الحليف الأكبر للتيار صاحب انتصارات إلهية على المؤامرة الكونية إياها، أي أن استثماره لها أعلى كعباً، الحزب وحده من يتصدى لها ويهزم أصحابها، بل يهزم سدنتها في الخارج، وعملاءهم في الداخل، ولا بأس إن تسبب تصديه للمؤامرة بقليل من الخسائر الجانبية، مثل الانهيار الذي وصل إليه لبنان.
وبينما ثابرت سلطة الأسد على التصدي للمؤامرة، خاصة منذ اندلاع الثورة، بالثمن الباهظ المعتاد للتصدي، انضم لبنان في العام الفائت بجدارة إلى ضحايا المؤامرة والمتصدين لها في آن. ثم عادت طالبان إلى السلطة لتمارس “واجبها” القديم في الانقطاع عن ذلك العالم “الشرير” وفي التصدي له. بخلاف هذا المثلث، لم تكن هناك دول أو حكومات أو عصابات حاكمة تتشكى من المؤامرة، وتعلن قطيعتها أو انقطاعها عن العالم. تالياً، خارج هذه البلدان، لم يكن هناك أبطال خارقون استطاعوا التصدي والثبات من موقع الضحية الضعيف. حكم الملالي مثلاً واظب على التصدي، لكن من موقع القوة والقدرة على الانتصار، بل حتى من موقع المتعالي الذي لا يستخدم كل قدراته لسحق الأعداء!
لهجة التهديد المضمرة في قول الناطق باسم طالبان أن العالم بحاجة إلى حركته لا يعوزها الجد والصدق دائماً، فهنا تهديد مضمر بسلاحين، الإرهاب والمخدرات. كان وزير خارجية الأسد في بداية الثورة قد هدد الغرب بالإرهابيين الذين سينفّذون عملياتهم في عقر داره، وها هو الناطق باسم طالبان يلوّح بقدرة حركته على ضبط الإرهابيين، وأيضاً على ضبط تجارة المخدرات في حال دُفع الثمن البديل عن أرباحها. ومضمار زراعة وتصنيع المخدرات انتقل من حيز الجريمة المنظمة ليصبح بمثابة “الحرب الناعمة” التي يشنها أخيار العالم وأشرافه القلائل على الكثرة من بلدانه وشعوبه التي تمثل الشر، هو السلاح الذي سيُستخدم ترويجاً أو ابتزازاً انطلاقاً من مثلث سوريا-لبنان-أفغانستان.
تبقى الإشارة إلى أن أهم المنسحبين من التصدي للمؤامرة الكونية لهذه السنة هو زعيم كوريا الشمالية كيم جونغ أون، فهو رغم إعدامه خلال العام الفائت سبعة كوريين لمشاهدتهم مقاطع فيديو قادمة من الشطر الجنوبي لم يتوقف عند هذا النوع الفاضح من الغزو الثقافي، وكرس خطابه في نهاية العام أمام اللجنة المركزية لحزبه على التنمية الاقتصادية والمجاعة، واصفاً المعركة الاقتصادية بأنها معركة “حياة أو موت”. ربما علينا أن نأخذ بحذر تحول خطاب أون، ولا نستبعد نكوصه لاحقاً إلى نظرية المؤامرة، أما في ما يتعلق بمثلث جبران باسيل-طالبان-الأسد، فلا يُنتظر منهم السباحة خارج الماء الذي اعتادوا الغطس فيه.