قبل أقل من شهر بدّلت صورة البروفايل الخاصة بها على “فيسبوك” فوضعت صورة زوجها وطفلتيها للدلالة ربما على عالمها الصغير آنذاك. الصورة نفسها اليوم يتم تداولها للاستدلال على المشتبه بقتلها.
منال التيماني وحيدة والديها المطلّقين، ربّتها أمّها بالتعب والفقر مذ كان عمرها سنتين كما تقول صديقاتها، حين انفصلت عن الأب. ثم تزوجت منال مازن حرفوش وأنجبت منه ابنتين.
منال معلمة مدرسة، تداول اصدقاؤها منشوراً لها تتحدث فيه عن شغفها بعملها وبزوجها وطفلتيها محاولين الردّ على كيف تحولت منال خلال ساعات لحكاية تلوكها الألسن والأخبار.
قُتلت منال في مجزرة سقط فيها 9 قتلى من بينهم طفلان سوريان ووالدهما. المتّهم الأول بالجريمة الجماعية زوج منال مازن حرفوش.
الساعات الأولى التي أعقبت شيوع خبر الجريمة كانت كافية لبث الذعر في بعقلين في منطقة الشوف اللبنانية. الصور التي تم تداولها لمجموعة من الضحايا المضرجين بدمائهم ومن بينهم سوريون بثت مخاوف من أزمة سياسية أمنية، لكن سريعاً ما تم نشر الكلمة التي تنفس معها كثر الصعداء … إنها جريمة “شرف”.
هكذا وببساطة ألقي على عاتق منال عبء الجرائم التسع.
9 ضحايا سقطوا في مجزرة بعقلين التي ارتكبها وفق التحقيقات الأولية مازن حرفوش، وقد يكون شقيقه مشاركاً معه. 9 ضحايا بين سوريين ولبنانيين، يراد الآن تمحيص اللغة للبحث عن تبرئة اجتماعية لقاتلهم المتواري عن الأنظار، وهنا اللغة متواطئة وقاتلة. فقبل القبض على الأخوين حرفوش، يبدو أنهما حصلا على شكل من أشكال المناصرة الاجتماعية أو الأعذار المخففة من خلال اشاعة ارتباط دوافع الجريمة بسلوك الضحية.
تمّت تبرئة القاتل اجتماعياً، وقد يصوّر بعد حين كبطل من أبطال الشهامة، لأنه كان يدافع عن “شرفه”. لم يسأل أحد عن السلاح الذي بات متوافراً بيد كثيرين ولا عن الذكورة في الثقافة والممارسة والقوانين ولكن أحيلت ببساطة أسباب الجريمة إلى المغدورة منال حرفوش (وهي القتيلة الأولى) غير القادرة على الدفاع عن نفسها بعد الآن، وليس أسهل من تحميل النساء جرائم قتلهنّ. قيل إنّ الجريمة وقعت دفاعاً عن “الشرف”. فما كان من مازن حرفوش سوى أن دخل البيت وقتل زوجته، ثمّ أكمل مجزرته وقتل عاملاً سورياً وطفليه وعاملاً سورياً آخر وعاملين آخرين من عرسال (اعتقد أنهما سوريان)، وكل ذلك دفاعاً عن “شرفه”. ومن دعاة هذا السيناريو النائب الدرزي “التقدّمي” المثقّف ممثّل الأمّة مروان حمادة، الذي سارع قبل انتهاء التحقيقات وقبل القبض على المشبه بهما، إلى اعتبار المجزرة المرعبة، جريمة “شرف”. كل ذلك محاولة للتخفيف من فظاعة المجزرة والبحث عن تبريرات مستحيلة لجريمة استهدفت 9 أشخاص أبرياء لهم قصص وعائلات، ولا يملك أحد حقّ إنهاء حياتهم لأي سبب من الأسباب.
عائلة منال أصدرت بياناً رفضت فيه التعرّض لسمعة المغدورة: “من واجب من لا يعرف، أن يلتزم الصمت لأنه يضع في ذمته شابة طاهرة وأولاداً أبرياء”.
من هي منال؟
وفق المعلومات المتوافرة، منال (33 سنة)، معلّمة مدرسة وحاصلة على ماجيستير في الرياضيات، كانت في الفترة الأخيرة المعيلة الأساسية لزوجها وابنتيها (سيرينا 6 سنين، ليانا 3 سنين)، ذلك أن زوجها موظّف أمن في إحدى جامعات المنطقة ولم يكن يتقاضى ما يكفي لإعالة عائلته، لا سيما في الظروف الاقتصادية الراهنة. وعائلة حرفوش كانت تعاني من وضع معيشيّ صعب، لا سيما أنهم يعيشون في منزل غير مكتمل ويحتاج إلى تكاليف باهظة لإنجاز ما يحتاجه. في المقابل، لم يُعرَف عن مازن سوى أنه شخص خجول ومحافظ، ما يطرح المزيد من الغموض على المجزرة وحيثياتها، ويطرح من جديد قضية السلاح المتفلّت الذي يضع أي قرية أو حيّ أمام احتمال وقوع مجزرة كمجزرة بعقلين.
صديقة منال، نسرين خطار بوحمدان تؤكّد لـ”درج” أن “المغدورة إنسانة رائعة ومن الظلم أن يُحكى عنها بالسوء، وأن يتم تبرير الجريمة بالشرف، وكأنّ الضحية أصبحت مدانة”. وتضيف: “تعرّفت إلى منال قبل 5 سنوات، ونحن نعلّم معاً في مدرسة مار مارون بيت الدين. وموتها بهذه الطريقة صدمة كبيرة لي ولكل من عرفها. كانت طاقتنا الإيجابية، كانت تحبّ جلسات التأمل والطاقة، وكانت تصطحبني معها”.
وتتابع: “كانت منال سعيدة بزواجها ولم ألحظ أبداً أنّ هناك أي مشكلات عائلية، أو أنها تتعرّض للعنف الزوجي. لا أعرف كيف حصل ذلك، لكنّ مازن ومنال كانا مضرب مثل في العلاقة المثالية”.
تجدر الإشارة إلى أن لبنان لم يشهد مثل هكذا جرائم منذ عام 2002، حين أقدم موظف على قتل 8 من زملائه في منطقة اليونيسكو. ما يضعنا أمام جريمة نادرة لا يمكن استسهال الحكم فيها أو تصنيفها كيفما اتفق، وفي ظل التفلّت الأمني والظروف المالية والاقتصادية، علينا أن نطرح سؤالاً حقيقياً حول من يحمينا حقاً من هذه المجازر التي لا شيء يعيق حدوثها في أي وقت وفي أي زمن، وتكون المناصرة الاجتماعية جاهزة لإيجاد أعذار مخففة للمجرم، وتصوير المجزرة كحادثة ووقعت.
وفيما يسهل تناول منال، نشرت “جمعية كفى” بياناً قالت فيه: “لم يجد بعض المشرّعين والمسؤولين إلا تعبير “جريمة شرف” ليصفوا بها ما حصل”، مؤكدةً أنه “مصطلح غير قانوني ورجعي وذكوري، وينزع عن الفعل المرتكب صفته الجرمية العنيفة ويحيله إلى اعتداء متعلّق بالشرف”، مستغربةً أن يأتي “على لسان مشرّع واجبه صون حقوق الناس، والحق بالحياة هو من أسمى هذه الحقوق”.
وأشارت في البيان إلى أن “ما حصل بمعزل عن الأسباب والدوافع، هو جريمة متسلسلة مرعبة، طاولت أكثر الفئات هشاشة في مجتمعنا، ننتظر إلقاء القبض على مرتكبيها ومحاسبتهم، والعمل جدّياً على تفكيك البنى الأبوية السامة والتركيبة الاجتماعية الذكورية، بدل ترسيخها”.
هربوا من الحرب في سوريا فلاحقهم الموت هنا
من ضحايا المقتلة عمال سوريون وطفلان تردد أن القاتل استهدفهما بالرأس مباشرة فيما كانا يحاولان الهرب منه.
شادي أبو جابر وهو رب عمل العاملين السوريين المقتولين، في ورش البلاط والبناء، يقول لـ”درج”: “أحدهما أعرفه منذ 15 سنة والآخر منذ نحو 8 سنوات، وهما شخصان محترمان ومهذّبان ولم يشكُ أي من أهل المنطقة منهما. ما حدث أنني اضطررت للخروج من الورشة التي كنا نعمل فيها منذ شهر كانون الثاني/ يناير عند آل بو ضرغم، قرب بيت حرفوش، فاتصل بي شقيق صاحب الورشة وأعلمني بالحادثة. وصلت ورأيت الجثث الأربع على الأرض”. ويتابع: “ثمّ على بعد أمتار رأينا جثّة شقيق المشتبه به”.
ويؤكّد أن “ليس للعاملين أعداء، وهما مياومان يعملان لتأمين قوتهما. أحدهما له زوجة و3 أطفال وهو ياسر الفريج، هرب من سوريا بعدما تمّ تدمير بيته ببرميل متفجّر، لكنّ الموت لاحقه إلى هنا هو والعامل الآخر أحمد بسون الذي قتل مع ابنيه محمد وحسن اللذين صودف وجودهما في الورشة يومها”.
كوفيد 19 يضاعف معاناة النساء!
مجزرة بعقلين ومقتل منال هو حلقة في سلسلة باتت تثير القلق والخوف معاً جراء ازدياد العنف بحق النساء بعد انتشار وباء “كورونا” وفرض الحجر المنزلي. أرقام القوى الأمنية تتحدث عن ارتفاع بالتبليغات من نساء معنفات وصلت الى 100 في المئة خلال فترة الحجر، وجرائم القتل سجلت أربع حالات خلال الشهر الفائت وحده وهي نسبة لم تسجل من قبل.
يبدو أن فايروس كورونا الذي يحكم قبضته على العالم بأسره يضاعف من فايروس العنف المنزلي لتصبح معاناة النساء قاتلة بالمعنى الحرفي للكلمة.
المصدر: موقع درج/ ٢٢ نيسان ٢٠٢٠