جسر – صحافة
هي ليست محاكمة بالمعنى المتعارف عليه، فأبو عمشة كان قد ارتضى المثول أمام اللجنة التي شُكِّلت من ثلاثة شيوخ ينتمون إلى المجلس الإسلامي السوري، بالتوافق بين المجلس وحركة عزم. في نهاية تحقيقاتها، خلصت اللجنة يوم الأربعاء الفائت إلى إدانة أبي عمشة ببعض التهم المنسوبة إليه، وأوصت بعزله من جميع المهام الموكلة إليه، وعدم تسليمه شيئاً من مناصب الثورة لاحقاً.
لمتحدثين باسم العشائر رأي آخر. بيان “مجلس قبيلة النعيم” اتهم مشايخ اللجنة باستهداف فصيل “العمشات” بسبب كرههم العشائر، مختتماً بالقول “لذلك نقول إننا سنقف بصدور عارية أمام أطماعكم وحبكم لسفك دماء الثوار، ولن نسمح لأحد بالاقتراب من فصيل عشائري ثوري”. بيان “عشيرة الدمالخة الأحرار”، بعد عدم الاعتراف بقرار اللجنة، طالب المؤسسات الثورية بتقديم المشايخ للقضاء الثوري، مهدداً: لن نقف مكتوفي الأيدي والله ناصر الذين ظلموا. بيان “قبيلة بني خالد” أشاد بفصيل سليمان شاه-العمشات، وناشد باقي العشائر “الوقوف وقفة رجل واحد بوجه هذه المخططات التي تحاك في أقبية مظلمة لضرب الثورة وثوارها”. بيان “مجلس قبيلة البكارة في الشمال السوري” لم يرَ في ممارسات أبي عمشة ما يسيء إلى الثورة ومبادئها، بل رأى العكس من ذلك تماماً، مع تحذيره أيضاً من عواقب قرار اللجنة الذي سيؤدي إلى اقتتال تُراق فيه دماء الشباب الثائر.
لا شك أنه أمر مضجر للقارئ تكرار كلمات ثورة، ثوار، ثوري.. إلخ، ولعل ما يخفف من الضجر ورودها في بيان للجنة تحقيق مشكلة من مشايخ، لا من حقوقيين مختصين، ثم ورودها في بيانات ممهورة بأسماء عشائر. نعم، ما سبق لا ينتمي إلى ما قد نعتقد أنه من اللامعقول، اللامعقول الذي يصبح بموجبه أبو عمشة واحداً من ممثّلي الثورة بحكم “مناصبه” التي توصي اللجنة بعزله منها، وممثّلاً لمبادئ الثورة بحسب بيانات للعشائر. هي، بحسب ذلك كله، محاكمة ثورية، والذين معها أو ضدها ينطقون باسم الثورة ذاتها، ومن منطلق الغيرة عليها وعلى استمرارها.
ثمة بالطبع وجهة نظر أخرى، يقول أصحابها أن الثورة موجودة ومستمرة، وأن الذين على شاكلة أبي عمشة لا يمثّلونها، ولا يمثّلها أيضاً الائتلاف الذي سبق لرئيسه أن كرّم المذكور على نضالاته. ثم، إذا مضينا أبعد مع أصحاب هذا الرأي، لا أحد يمثّل الثورة التي يصرّون على وجودها واستمرارها؛ إنها ثورة نقية طاهرة، ينطق باسمها أفراد وقيادات يتوزعون بين عدم الكفاءة وعدم الاختصاص ومجرد الارتزاق. الوصف الأخير لا يبتعد إطلاقاً عن كلمة “مناصب” التي وردت في بيان لجنة التحقيق، وهي أمينة للواقع إذ لم تستخدم كلمة “مهام”. ذلك يذكّر بأولى اجتماعات المجلس الوطني، حين تساءل بعض الحضور عن الراتب الذي يستحقه بحكم منصبه، الراتب الذي يحيل إلى الوظيفة لا التعويض الذي “مع تساهل شديد” يحيل إلى التفرغ للعمل السياسي.
في عام 2018، اتهمت زوجة أحد مقاتليه أبا عمشة باغتصابها، والتسبب بإجهاض جنينها وهي حامل في شهرها الثالث. التهم المنسوبة إليه وإلى المقربين منه، ومنهم اثنان من أخوته في موقع القيادة أيضاً، تتنوع بين الاغتصاب وفرض أتاوات على المزارعين تصل إلى 8 دولارات على الشجرة المثمرة، وإلى ربع موسم زيت الزيتون، حيث يسيطر لواؤه على منطقة شيا-شيخ الحديد التابعة لعفرين. ذلك عدا عن السرقات، وقتل المعتقلين تحت التعذيب، واستدراج نساء بأساليب متعددة إلى مقر قيادة اللواء بقصد اغتصابهن، وتصوير عمليات الاغتصاب ثم ابتزازهن بالتسجيلات.
الفقرة السابقة فيها ملخص مختصر جداً عن أبي عمشة الذي يقود آلاف المقاتلين، وكان قد أرسل أعداداً غير معروفة منهم للقتال في ليبيا، ثم للقتال في أذربيجان ضمن المعارك الأخيرة مع أرمينيا على إقليم كاراباخ. بل هناك حساب على تويتر نشر فيما مضى تصويراً لتوزيع مساعدات على السكان في دولة الكاميرون، زاعماً أنها مرسلة من قائد لواء سليمان شاه محمد الجاسم أبو عمشة! وآخر ما أثاره الرجل قبوله في كلية الحقوق-جامعة حلب الحرة، بعد حصوله على شهادة بكالوريا من “مديرية التربية في مناطق غصن الزيتون-ريف حلب”، هو الذي يُعرف عنه توقف تعليمه عند المرحلة الابتدائية.
فضائح أبي عمشة معروفة منذ سنوات، وصعوده الذي لا يتناسب إطلاقاً مع مؤهلاته معروف جداً أيضاً. إلا أنه طوال الوقت استفاد من غياب آليات الرقابة والمحاسبة، شأنه شأن أي فصيل آخر يسيطر على منطقة ويُخضع السكان لقوانينه، وبذلك استفاد تالياً من عدم تفرّده بممارسة الانتهاكات، فالجميع متورط فيها بنسب متفاوتة. فرادة أبي عمشة هي في بذاءته الأمية الفاضحة، هو كاريكاتور لأمير حرب.
من المصائب السورية أن تجاراً من نمط مختلف تماماً سيستشهدون بمحاكمة أبي عمشة للقول أن الثورة تصحح أخطاءها وتعاقب المسيئين إليها، لا يندر بينهم مَن كان إلى الأمس القريب ينكر وقوع انتهاكات من مختلف الفصائل “عمشات وحمزات.. إلخ”، أو يسكت عنها أيضاً من باب الحرص على سمعة الثورة، أو يقارنها بعموم الانتهاكات التي تحدث في سوريا وكأن الجريمة تبرر الجريمة. الأقرب إلى حسن النية هم أولئك الذي طالبوا باستمرار التحقيقات والمحاكمات لتطال كافة المسيئين لقيَم الثورة، وحسن النية يتجلى في عدم الانتباه إلى أن ذلك يعني الإجهاز على الأطر الحالية التي ترفع علم الثورة، بلا استثناء مؤثر.
بالتأكيد، هناك من يقول عن قناعة ووعي: ما علاقة هؤلاء جميعاً بالثورة؟! الثورة حدثت وانتهت. لكن لا يوجد اتفاق عام على أن الثورة انتهت، وبين من يقولون ذلك لا يوجد اتفاق على توقيت نهايتها وأسبابها. ليس من اتفاق حول الانعطافة من الثورة إلى الحرب، مهما كانت المبررات، وليس من فهم عام لأطوار الحرب نفسها وتحولات الفصائل مع كل طور. بدلاً من ذلك كله، لدينا مشايخ باسم الثورة ينتحلون صفة المحققين، وعشائر تدافع عن متهم بسجل حافل من الانتهاكات باسم ثوريتها وثوريته، لدينا مؤسسات وفصائل من المرتهنين والمرتزقة الذين فاضوا عن الميدان السوري إلى ليبيا وأذربيجان. باستثناء الفصائل الإسلامية براياتها المختلفة أصلاً، هؤلاء هم فقط الذين يرفعون راية الثورة، ورغم ذلك لدينا أعداد ضخمة ممن يرفضون الاعتراف بأن الثورة انتهت.
المصدر: موقع المدن