ريهام منصور
“يقولون أني فرنسي من أصل سوري، أنا لا أنكر أصلي، ومتمسك به، ولكني أصبحت فرنسياً، وهذه الثنائية الموجودة لدي صنعتني” بهذه الكلمات يبدأ محمد الطراد حديثه بعد أن أصبح أحد أبرز رجال الأعمال الفرنسيين في العالم، قادماً من طفولة قاسية عاشها في سوريا، خلال حياة البداوة.
يخوض الطراد هذه الأيام حملة انتخابية ليصبح رئيساً لبلدية مونبلييه في فرنسا، تلك المدينة التي وصل إليها شبه تائه، ولم تستقبله حينها كما يجب، فبات الآن منافساً ليرأس بلديتها.
لمحة مختصرة
يرأس الطراد شركة دولية رائدة في ميدان السقالات، ويمتلك نادي لرياضة الركبي مونبليه ضمن شراكة في ملكيته. ونال محمد الطراد، الذي يرأس شركة صناعية مهمة في مونبلييه بجنوب فرنسا، الجائزة العالمية للمقاول لعام 2015، والتي تمنح من قبل ديوان “أو إيغريغ”، وهي أول مرة يحصل فيها فرنسي وعربي على هذه الجائزة المرموقة، كما مثَّل الطراد فرنسا في مسابقة شارك فيها 53 بلداً، وتنافس فيها أكبر المقاولين العالميين ورؤساء الشركات. يدير الطراد اليوم شركة للسقالات تحتل الريادة في الميدان أوروبيا،
كما دخل الطراد عام ٢٠١٥ في قائمة أثرياء العالم، الني تعدها مجلة “فوربس الأمريكية”.
نشأة الطراد
ولد الطراد عام ١٩٤٨، في عوائل البدو الرحل بريف الرقة، ونظراً لأن أهله كانوا يتنقلون، فلم يكن هناك إمكانية لتسجيله، لذا لا يعرف عام ميلاده الحقيقي، فوفق التقاليد البدوية “لا يعتبر يوم الولادة شيئاً مهماً”، بحسب الطراد.
توفيت والدة الطراد وهي في سن الـ ١٤ وتربي على يد جدته، يقر الطراد أن والده اغتصب والدته مرتين، فولد مرة شقيقه الكبير، وفي المرة الثانية ولد هو، كان والد الطراد قاسياً ورجلاً ذو نفوذ، ويتمتع بحقوق كبيرة، فله الحق في اغتصاب الفتاة التي يشاء، ماتت والدة الطراد من القهر كما أشيع، أما شقيقه فتوفي تحت الضرب وسوء المعاملة من قبل والده، كما يؤكد الطراد.
يقول الطراد في مقابلة رصدتها صحيفة “جسر” مع قناة “فرانس ٢٤” إنه “عشت مع جدتي وأمي التي كانت مراهقة” ليخرج من الماضي مضيفاً “أحاول دائماً أن انسى وأبحث عن حيز للفرح ولكن لا أجده أبداً”، رغم كل ما يملكه من مال وأعمال.
يستدرك أنه في الماضي فيعود “بعد وفاة والدتي عشت مع جدتي وانفصلت عن أبي، ورفضت جدتي تدريسي قائلة: “أي راعي لا يحتاج إلى كتب” لقد كانت فقيرة، ومحقة فيما تقول، فالراعي لا يحتاج للدارسة من أجل رعي الغنم، فهمت منذ البداية أن المخرج الوحيد من هذه الحياة، أن أدرس، فلم أحترم الشروط التي فرضتها علي، وكنت اضطر أن استيقظ باكراً، لاتابع الدروس عبر جدران المدرس بشكل مخفي”.
يعتقد الطراد أنه عاش ٣٠٠٠ آلاف عام، نظراً للظروف التي مر بها، فيقول “بداية عشت في ظروف بدائية نشأت في بيئة رملية جافة والماء فيها نادر، كحال سيدنا ابراهيم، والآن اعيش في بيئة عصرية مليئة بالتكنولوجيا، فأشعر اني عشت ٣ الاف سنة مشواري يشكل معجزة” .
يتحدث الطراد عن الشئ الوحيد الذي قدمه له والده فيقول “عاد والدي، واشترى دراجة نارية، عندما كنت مع جدتي، وأذكر أنها كانت حمراء اللون، كنت أفضل لو أنه اشترى لي أقلاماً، ولكن لا بأس، فقد استخدمت تلك الدراجة، وقمت بتأجريها للأطفال، فتلك تعتبر أول تجربة في مجال الأعمال بالنسبة لي”.
كانت ظروف الطراد التعليمية غير مستقرة، إذ كانوا يتنقلون حسب حاجات الرعي وموسم المطر، وذلك حتى وصل إلى مرحلة الصف الثالث الابتدائي، ولكن لحسن الحظ انتقلت عائلته إلى الرقة، وهناك انتقل للعيش في منزل قريب له من العشيرة ذاتها، ليس لديه أولاد، فاستطاع البقاء عنده، وإكمال تعليمه حتى حصل على الشهادة الثانوية.
تم تكريم ١٢ طالباً تفوقوا في الثانوية، بسوريا، ومنهم الطراد، يقول “كنت الوحيد الذي أرتدي جلابية، نظراً لظروفي الصعبة، أردت السفر إلى كييف لأصبح طياراً، إلا أنه لم يتح لي ذلك، فقد كانت المناصب شاغرة، أتيحت أمامي ثلاثة فرص، إما أن ادرس في جامعة حلب لأصبح أستاذاً بعدها، أو أدرس الطب في القاهرة، أو أذهب إلى فرنسا، لأجد شيئاً ما أدرسه هناك”.
وصوله لفرنسا
وصل الطراد إلى فرنسا، في فصل الشتاء، إلى مدينة مونبلييه، وقد اختار فرنسا بشكل عفوي، إلا أنه قرأ خلال دراسته نصاً لفكتور هوغو الكاتب الفرنسي، كما أعجب بخطاب الجنرال ديغول يقول”بهرتني شخصيته، إلا أني لم أكن أعرف الكثير عن فرنسا، فقد كنا مرتبطين بالاتحاد السوفييتي، ورغم ان فرنسا حكمت سوريا حتى عام ١٩٤٦ لكن العلاقة لم تكن مع سوريا كعلاقتها بشمال افريقيا”.
جاء الطراد مراهقاً، ولديه صورة في ذهنه بأنه لن يجد فقيراً في فرنسا، والحياة وردية، يقول “عندما حطت الطائرة فوجئت ان الفرنسي يمكن ان يكون فقيراً، رايت في المطار المتشردين في الشوارع ،لن ادخل في التفاصيل، هناك خلاف بين ما اتصور وما اكتشفت، وصلت الجو بارد، والناس لم يكونوا لطفاء، لاني غير قادر على التواصل معهم، كان معي عنوان لكي انتقل للجامعة وكنت اظهر العنوان للناس فيقدمون صدقة، واكتشفت ان هناك مشكلة، نظراً لوجود فجوة بين ثقافة شرقية اسلامية وبين ما وجدته، شئ مختلف تماماً، ولكني كنت صغيراً، ومع الوقت عرفت كيف اتجاوز هذه العقبة”.
انتقل الطراد إلى باريس حيث أكمل دراسته هناك فنال شهادة الدكتوراه في المعلوماتية، يقول “هذا الانتقال شكل قفزة هامة في حياتي، كنت سعيداً أني غادرت مونبيله، فهي ترمز للصعوبات التي واجهتها بفرنسا في السبعينات، بعد استقلال الجزائر، وقدوم الملايين إلى فرنسا، كان في نظر الفرنسيين أن العربي عربي أياً كانت اصوله، وكنت أحاول ان اوضح الأمور للناس انذاك، بالطبع نحن عرب، ولكن خصوصيتنا تختلف، وتاريخ فرنسا مع الجزائر، يختلف عن تاريخها مع سوريا، ومع ذلك عانيت، لا يمكن أن أقول أنه كان عنصرية، ولكني دفعت ثمناً وكنت أنبذ”.
بانتقال الطراد إلى باريس، أطل على مدينة كبيرة أكثر انفتاحاً، وهناك واصل دراسته، وكان يحصل حينها على منحة قدرها ٢٠٠ فرنك اي ما يعادل عشرين يورو حالياً، وكان عليه شراء كتب وتدبير أموره بهذا المبلغ، إلى أن قررت الحكومة السورية إيقاف المنحة، مطالبة إياه بالعودة، ولكنه رفض وبدأ بإجراءات تسديد المنحة، وبالمقابل كان يحضر شهادة الدكتوراه وبدأ بالعمل في شركة الكاتيل، كما عمل في شركة تومسون.
زيارتين أخيرتين لسوريا
زار الطراد سوريا في بداية شبابه، يقول “عدت لسوريا لأي أرى كيف تجري الأمور، ولكي اتنفس، حاولت أن أتقبل ما عشته هناك، كانت تلك الزيارة حجاً، إن صح التعبير، وما لاحظته عندما زرت قبر أمي أني لم أجد القبر، هذه الحياة المطموسة طمست مرة ثانية وغادرت سوريا، وأشعر كأنني أريد أن أضع حياتي في سورية جانباً، وعندما عدت لفرنسا تحسنت ظروف معيشتي ،ولم أكن قد طلبت الجنسية الفرنسية، ولكني بدأت أعمال وأعيش بصفة مستقلة ضمن المجتمع الفرنسي.
بداياته في العمل بابو ظبي
يعد بضع سنوات من عمل الطراد، في شركات فرنسية،١٩٨٠، اكتشف إعلاناً في جريدة لوموند الفرنسية يتحدث عن مناصب عمل لمهندسين عرب للعمل في ابو ظبي، فيقول “في أبو ظبي نجد ثقافة بدوية ووجدت أن الظروف الظروف الثقافية مناسبة وكنت قد زرتها سابقاً، وكانت الامارات حينها، تحاول أن تتحول إلى دولة في المنطقة، وكانت تحت حكم بريطاني، وبدا لي هذا العمل كفرضة لأقوم بشي مساهم في استقلال هذا البلد الجديد”.
انتقل الطراد للعمل إلى أبو ظبي، حيث تم إنشاء شركة وطنية مع مغاربة وجزائريون وعراقيين، وهي شركة ادنوك وتعتبر اليوم من أكبر الشركات النفطية في العالم اليوم ، وكان عقده لمدة أربع سنوات، أنهاها وعاد إلى فرنسا.
في باريس
بعد عودته من أبو ظبي، تمكن من إدخار مبلغ جيد من المال، ففي عام ١٩٨٤ كانت أبو ظبي عبارة عن قرية، لا يتجاوز عدد سكانها خمسة آلاف نسمة، وبمجرد الخروج منها يجد الإنسان نفسه في الصحراء، فضلاً عد عدم وجود ضرائب عالية كما في فرنسا، فكان يدخر مجبوراً.
أنشأ الطراد شركة كانت تنتج حواسيب منقولة، فيقول “آنذاك الحواسيب كانت ضحمة كنا نشتري شاشات تلفزيونية وأزاراً ومكونات مختلفة، وهكذا أنشاًنا حاسبا ًمنقولاً ووضعناه في علبة، ولكن وزنه بلغ ٢٥ كيلو، وأول استعمال للحاسوب كان عرض مواقيت الوصول والمغادرة في المطارات العربية، وكان هذا جديداً جداً، وأردت أن أطور هذه الشركة ولم تكن لدي الأموال لذلك اضطررت ان ابيع الشركة”.
لم يكن بنية الطراد أن يصبح رجل أعمال، فما يريده هو إنجاز مشروع كبير، ولكن الأمر يم يكن محدداً، وبعد عودته من أبو ظبي، أدرك الطراد شيئاً هاماً وهو أن “فرنسا لن تتغير، عليه هو أن يتغير وأن يجد لنفسه مكاناً في المجتمع الفرنسي” والذي لم يجده حتى عام ١٩٨٤.
يقول “في ذلك العام كان لدي مبلغ من المال، ومنصب عمل، وكنت قد حصلت على الجنسية، وإحدى المرات وأنا في جنوب فرنسا في عطلة، بقرية، جاء جاري واقترح علي أن اشتري شركة، جديدة لمنشآت الأشغال واطلعت على الشركة واشتريتها، رغم أن منتوجها لم يكن خاصاً، بل عادياً، لكنه ضروري،شركة للإعمار والمنشآت البنائية، تم إصلاح الشركة وأصبحت مربحة، واستعملت الأرباح لشراء شركات وبلغ عدد شركاتي ١٧٠ شركة في العالم”، ويعمل فيها ١٧ ألف موظف”.
ويوجد الآن ملعب في مدينة مونبلييه يحمل اسم ملعب الطراد لرياضة “الركبي”، وعن هذا الملعب يقول “في عام ٢٠١١ كان لمدينة مونبيله نادي من الدوري الأول للركبي، وكان النادي يلعب على المستوى العالمي وبلغ نهائي بطولة ال١٤ في فرنسا ضد نادي مدينة تولوز، لكن الوضع المالي لهذا النادي لم يكن على ما يرام، إذ كان مفلساً، وطلب مني مساعدة النادي وانقاذه ، لماذا انقذه؟ السبب ليس عقلانياً، ليس هناك أرباح مرتقبة، ولكن رغم ذلك منحت مليونين وأربعمئة ألف يورو، للنادي وأنفقت حتى الآن ١٧ مليون يورو، لأجعله من احسن النوادي في فرنسا”.
وعن سبب ذلك الدعم يوضح الطراد “لماذا فعلت هذا؟ هذه طريقة لأرد الجميل لمونبيله، حتى لا يقال يوماً أن مونبلييه قد هدرت وقتها مع هذا البدوي الذي جاء من سوريا”.