جسر: ثقافة:
لست من محبي الشعر، إن لم أكن من مبغضيه، و أصرح لأصدقائي الشعراء الذين أشفق عليهم جملة، بعواطفي نحو ما يكتبونه بلا شفقة، معلناً انحيازي للروائيين الذين أسعى جاهداً للالتحاق بركبهم، ولأن أكون رأس «إبرتهم» الذي يذكر الشعراء بأنهم شيءٌ نافلٌ في هذا العالم، حتى أدفع آخرهم إلى الجنون أو الانتحار.
وحين أرسل لي محمد المطرود ديوانه الجديد «ما يقوله الولد الهاذي»، واضطررت تحت سطوة شخصه النبيل، إلى قراءته بتروٍ، خاصةً أنه تطرق إلى المسألة الخلافية بين الشاعر والسارد، واغتنمتها فرصة للتفكير معه بالمسألة بقليل من التعقل، أو بمقدار ما يستطيع المطرود، أن يكون هادئاً ومنفتحاً، وقابلاً لتلقي الحقيقة. ودون أن أتخلى بالطبع، عن إيماني الخاص!.
وهنا لن أختلف مع أحد حول كون الشعر أقدم فنون الإنسانية وأكثرها حضوراً في تركته الثقافية. لكن موقعه اليوم مهدد، إن لم يكن قد سقط كلياً في قبضة السرد. وصار ما يطبع من أجود دواوين الشعر لا يتعدى الخمسمائة نسخة، فيما يطبع من أسوأ الروايات أضعاف ذلك. ولتقدم هذه وتراجع ذاك أسباب عديدة، سأحاول أن أطرحها محاور نص المطرود الشعري ذاته.
لقد عجزت الفلسفة والعلوم ومختلف ضروب الفكر والفن.. و اللاهوت، عن صياغة تعريف محدد للشاعر، بل وعجز الشعراء أنفسهم عن توصيف ماهيتهم ككائنات، وأغرقونا بكم لا ينتهي من الألغاز التي يعرِّف فيها كل شاعر نفسه باعتباره أعجوبة ميثية كبرى. و ثابروا على تقديم أنفسهم كـ«قومٍ» تنطوي أسطورتهم المؤسسة على تعال يهوي مقصود، فحواه أنهم هبطوا لسبب ما، من فردوس لا ينقطع حنينهم و-أنينهم- إليه، كـ«أول منزل»، أو كما يقول المطرود المخذول: «مذ عرفتك آمنت أن الأناشيد أنثى/ وأن الطريق إلى الله آمنٌ/ محفوف بملائكة يحرسون عناقنا/ ويزينون لنا / كم السماء جميلة/ وتستحق هذا الصعود المبجل/ مذ صدقتك/ وأنا معطوفٌ على المقدس/ لا أشبه روحي العمياء». ويصفون قصائدهم على أنها قواربهم إلى ذاك الفردوس، أو الدرب الذي يلده الشاعر ليبلغ ذلك العالم، أو الشرنقة التي يحوكها حوله كي لا يختنق بهوائنا!. يحاول المطرود أن يكون صادقاً مع نفسه حين يصف تلك الكذبة : «وكان أن تشربت المكيدة/ وتمرنت أميراً بعصا الحكمة/ يدٌ من الغيم لي/ يدٌ من مطلق الشيء/ ورعية فتحوا النافذة لكلام طيب/ وناموا هنيئين في سرير القصيدة/ كما يليق بأمير وعاشق وعريس/ وكان أن كبرت شاعراً».
لكن جمهور القراء اليوم لم يعد يناسبهم هذا التعالي والتنزيه الذاتي والرغبة في السيادة، ويعلن المطرود فهمه لهذه الحقيقة: «كصليبٍ على ظهر كنيسة / قديمةٍ/ العصافير فوقي/ والصغار يرمونني بحجر/ كأني عدوهم». ففي هذا العصر العاصف المأزوم، يحتاج الإنسان إلى تعزية ولو من قبيل «كم أنا محظوظ لأني لست ذلك البائس الذي يتحدث عنه النص الفلاني» وهو ما لا يستطيعه الشاعر بتعاليه وانشغاله بنفسه، وبأصله المجيد الذي يمنعه من الانحناء، والخوض في تفاصيل العادي! خاصة أن تنزهه يبدو في النهاية ادعائية تداري بؤساً وخواء يمقته الإنسان العصري، لأنه يذكره ببؤسه وخوائه. يصف المطرود جانباً من علاقة الشاعر بالعالم اليوم: «أين داري الجديدة يا أبي/ قال: أنظر …… فنظرت/ رأيت الناس بصمات الدم على الأرض/ ورأيتني مثل بقية الناس ظل دمهم/ أمشي خلف نعشهم أو نعشي/ قلت: ماهذا؟ /قال: اسكن ما رأيت./ فسكنت».
إن إنسان اليوم يريد التيقن من ذاته، والتصالح معها، للتكيف مع العالم سريع التحول والتبدل وهو ينحاز تلقائياً إلى الروائي، الذي يتوانى عن القول أنه ابن الحياة وضحيتها، ويعلي أبطالاً سلبيين، يعبر من خلالهم عن اعتنائه و اهتمامه به، ويقدم له عزاء حتى لو كان سلبيا من قبيل قوله «كم أنا محظوظ لأنني لا أعاني كما يعاني البطل الفلاني في الرواية الفلانية». و إنسان اليوم رغم ثورة التواصل والوصول الهائلة -ربما بسببهما- يعيش في عوالم صاخبة وهشة ومعزولة عن بعضها البعض، وهو في بحثه عن التوازن يحاول أن يعي محيطه، حتى أن رواية تتحدث عن تفاصيل العيش في واحدة من ضواحي باريس قد تشكل كل معارف باريس عن ذلك الجوار. وعلى الرغم من المنحى الذاتوي النرجسي الذي تذهب فيه الرواية أحياناً، إلا أن السارد عموماً حريص على اجتراح كل ما من شأنه إقناع المتلقي أو إيهامه بـ”واقعية” و حقيقية عمله، عبر تقصيه لتفاصيل الواقع، وسبر تفاصيل”الحياة السرية للمشاعر” كما يقول كونديرا، وإعطاء رؤية واضحة للعالم، عبر البنية الفنية المتماسكة للرواية، وصولاً إلى لحظة الوعي”اليقظة”. فيما يجهد الشاعر في استكشاف عالم مفارق، لا ينتمي إلى ذاكرة أو وعي أو خيال أو حساسية إنسان اليوم، فالتشتت والانفصال والتكثيف والاستيهام الذي يتوسل الشعر من خلاله التحليق والنشوة،لا تلائم الذائقة المعاصرة، التي تقع في نقطة ما بين التحليق الحالم، والتعمق التأملي. وهو ما يدركه المطرود ويعبر عنه بشيء من الانحياز: «وكما طار كاللعب واحتفت به السموات/ السارد سار عميقاً في الضوء»
على أن العامل الأكثر تأثيراً فيما وصل إليه الشعر وما بلغته الرواية كما أظن، يتصل بوظيفة الشعر ذاتها، وهي الوظيفة التي “أقالهُ” منها التطور العلمي، كما أقصى عديد المهن والحرف التراثية. فبوجود تقنيات حفظ و واستعادة المعلومات كالطباعة والكمبيوتر، انتفت الحاجة إلى القالب اللفظي الإيقاعي الذي كانت البشرية مضطرة لحفظ أفكارها وأخبارها وصورها داخله، واستردادها بسهولة. صرنا اليوم نستطيع أن نحفظ بدقة شبه مطلقة كلماتنا النشاز، والمفككة، والمهلهلة، والمتقطعة، والطائشة…والعادية، مثلنا. وتحررنا من الوهم الذي وقع فيه رجل كبير العقل مثل كولردج حين قال إن الشعر: «أحسن الكلمات في أحسن نسق»، فالنثر أيضاً يستطيع أن يكون أحسن الكلمات في أحسن نسق.. لأنه النسق الذي يشبهنا! يبدو هذا ادعاء مغالياً ، لكنني أدعو من ينكره إلى تفحص تاريخ الطباعة ومنحى هبوط قيمة الشعر وصعود الرواية. كما أدعوه إلى تفحص المجتمعات التي يزدهر فيها الشعر اليوم، فإن لم تكن هي المجتمعات الشفاهية ذاتها، فإنني أسحب دعواي. أما من كان عاملاً في الحقل الثقافي فأدعوه إلى تفحص أحوال أصدقائه الشعراء وعلاقتهم بالكمبيوتر. وسوف يجد بسهولة أن هؤلاء كلما كانوا أكثر قرباً من الكمبيوتر صاروا أبعد عن الشعر، عن القافية والوزن على أقل تقدير، أما من التصق به منهم التصاق المحب بحبيبه، فلم يدبج في عشقه قصائد الغزل.. بل تحول إلى روائي.
وتأتي محاولات الشعراء اليوم للتكيف مع هذه التحولات فاشلة ومضحكة. يقول المطرود: «هم (جزء من النص مفقود… هكذا وردت في الديوان(/ انسلوا خلسة في الرواية/ وقليلاً في الغياب/ وقليلاً في اللا معنى». وتعج الإصدارات الجديدة والجرائد والمواقع الالكترونية، بمتوسلي التقنية من الشعراء، ومحاولاتهم الخارجية لموضعة أنفسهم في العصر، إلا أنها شأنها شأن الإرهاصات المبكرة التي حاولت أن تتلمس وتواكب التحولات والحساسيات الجديدة وممكناتها عبر قصيدة التفعيلة والنثر وما إليها، ظلت شكلانية ، ولم تستطع التخلص من جوهر المشكلة المتمثل بالذاتوية، والاغتراب، والتكثيف والقوننة والتحليق والنشوة. وهي لم تستوعب بعد معنى نزوع إنسان اليوم إلى الطازج، والعادي، والمتخفف، والمتحرر، واليقظ، وكل ما يهتم به ويشبهه. وهو ما تستجيب له الرواية بأصالة.
إن احتلال الروائيين لموقع الشعراء التاريخي ، بات حقيقة لا يمكن تجاوزها، وحتى في ثقافة تعد إحدى آخر قلاع الشعرية، هي الثقافة العربية، يقال اليوم إن الرواية صارت ديوان العرب. وفي نص المطرود “حدس شعري” عالي وصادق بهذا الواقع: «أعرف والمكيدة هذه أحاطتني/ بأني لن أعود إلى ما كنتُ… أبداً”. ولكن مهما زعم أن “لدي الحيلة فأوجزها في الكتابة/ وأؤخرها ظهيرة أخرى ممتناً». فإن النهاية باتت قريبة ويتحدث عن نفسه وعن أصدقائه معزياً: «الصورة التي في الأعلى/ يقول محمد المطرود: لي/الصورة أجسادٌ كثيرةٌ/ تحشرُ في حافلة كما في قبر.أصدقائي جميعاً:/ الصورة التي في الأعلى لنا». لكن الإنكار كمرحلة من مراحل الاحتضار، سينتهي بإقرار الشاعر بالحقيقة ويتصالح معها: «ولسوف تهدأ/ ولسوف ترضى بما أُلت إليه».
لكنني لا أعتقد أنه سيتاح للمطرود ولا لسواه أن يتناسل من يحميه: «لما رأيت أني بلا أسلافٍ ولا أب/ فضَّلتُ أن أكون ابناً لأحد يحميني». و لن يُمنحوا الوقت للتأمل: «مأخوذين بحجر يغمض عينيه على سر/ومؤمنين أن/ ما يقوله الولد الهاذي لهوَ نبؤةٌ وسيأتي يومٌ/ يصارحونه على خجلٍ: صدقت!!!!». ولن يجديهم نفعاً التحسر على الشعر الذي لم يعد شركاً ناعماً لاصطياد النساء: «ونصحو، ونخدع، وندرك/ أن الرهان على الشعر خاسر/ وعلى النساء«. بل لن يكون متاحاً له أن يحقق ذلك الرجاء الأخير الصغير: «أرجو مغفرة ورحيلاً آمناً»، فجمهور الروائيين المجبولين على التنافس والصراع ، يرون أن أفواه الشعراء باتت حقاً «أفواهاً لا مجدية”» بتعبير سيمون دوبفوار، ومصممون على إقصائهم، من ذاك الواقف على الأطلال «بين الدخول ِ فحومل»، وانتهاء بصاحب «أبحث عنك على جوجل ِ» (من Google)؟؟!!