جسر – نجم الدين النجم
شنت إسرائيل 28 هجوماً على مواقع عسكرية واستراتيجية للميليشيات الإيرانية وقوات نظام الأسد في سوريا خلال العام المنصرم 2021، في حلقة ضمن سلسلة طويلة جداً من الهجمات، بدأت عام 2011، بهدف تقويض الوجود الإيراني وإبعاده عن الدولة العبرية.
ورغم الضربات الصاروخية الإسرائيلية الموجعة، التي كبدت الميليشيات التابعة لـ”الحرس الثوري الإيراني” خسائر كبيرة في الأرواح والعتاد، إلا أنها لم تنجح فعلياً بالحد من توسّع رقعة النفوذ الإيراني في سوريا. الوجه الأكثر بساطة ووضوحاً لهذا الصراع بالنسبة للمتابع، أن تل أبيب تخسر المزيد من الصواريخ، وإيران لا تخسر إلا المقاتلين ولا تكسب إلا بعض العراقيل الآنية لتحركاتها العسكرية المستمرة.
تثير الجدوى المحدودة -ظاهرياً- للهجمات الإسرائيلية الكثير من الأسئلة، للتعرّف إلى الوجوه الأُخرى لهذا الصراع، ومستقبله في قادم الشهور والسنوات.
سمة الضربات الإسرائيلية في العام الأخير
تركّزت معظم الضربات الإسرائيلية في سوريا خلال السنوات الماضية، على مواقع “عسكرية” للميليشيات الإيرانية، في مناطق الجنوب القريبة نسبياً من الحدود الإسرائيلية، ومناطق البادية السورية. هذه كانت السمة الأوضح لهجمات الجيش الإسرائيلي.
في العام الفائت، وإلى جانب الضربات “التقليدية” للجيش الإسرائيلي، شن الأخير هجمات عدة استهدفت مواقع “استراتيجية” في قلب النفوذ الإيراني بالبلاد.
بشهر كانون الأول 2021 وحده، قصفت إسرائيل في مناسبتين، موقعاً في مرفأ اللاذقية، الذي يعتبر نقطة استراتيجية مهمة طهران في سوريا. وسواء كانت شحنات أسلحة إيرانية هي المستهدفة في كلا الغارتين أم لا، فإن الرسالة الإسرائيلية من وراء الهجومين تقول بوضوح، إن كل تحرك وأي مصلحة لإيران في البلاد هي هدف مشروع.
وصرّح وزير الدفاع الإسرائيلي، بيني غانتس، بعد ساعات من الهجوم، أن إسرائيل لن تسمح لإيران بنقل “أسلحة قادرة على تغيير اللعبة” إلى عملائها.
في الشهر ذاته، استهدفت غارات إسرائيلية مدرّجاً للطائرات في مطار دمشق الدولي، الذي ينشط حالياً في تسيير الرحلات المدنية. المطار الذي استهدف بغارة مماثلة في أيلول، تستخدم إيران أحد مدرّجاته لإرسال طائرات الشحن.
وفي 9 من الشهر الحالي، أكدت مصادر إعلامية محلية، أن “الحرس الثوري الإيراني” استأنف عمليات ترميم وتأهيل مدرّج طائرات الشحن في المطار، وقال موقع “صوت العاصمة” إن إيران وبعد هجوم أيلول كانت تعمل على إصلاح المدرج، وكان من المقرر أن يعود للخدمة قبل نهاية العام، لكن الهجوم الثاني في كانون الأول أفسد ذلك، وأجبرها على تجديد عمليات التأهيل مرة أُخرى.
وخلال عمليات الإصلاح، أجرى خبراء إيرانيون من وزارتي الدفاع والنقل زيارات إلى مطار دمشق، في شهري تشرين الأول وتشرين الثاني، للإشراف على تأهيل مدرج الطائرات، المخصص لهبوط طائرات الشحن الضخمة.
وفي الشهر الأخير من العام الفائت أيضاً، كشفت صحيفة “واشنطن بوست” عن ضربات إسرائيلية استهدفت منشآت لتصنيع الأسلحة الكيميائية في سوريا، في حزيران الماضي.
وزادت الصحيفة أن الضربات التي استهدفت المنشآت قرب دمشق وحمص، أسفرت أيضاً عن مقتل 7 عناصر وضابط كبير من قوات نظام الأسد.
هذه الحلقات اللامعة من سلسلة الهجمات الإسرائيلية ضد الميليشيات الإيرانية بالدرجة الأولى وقوات النظام بالدرجة الثانية، تضفي سمة جديدة على مسلسل هجماتها، وهي استعداد تل أبيب الصلب والثابت، لمجابهة النفوذ المستقبلي لطهران في سوريا، وليس فقط النفوذ المرحلي.
سمة الوجود الإيراني في سوريا
نشطت إيران عسكرياً واقتصادياً وثقافياً خلال السنوات الماضية من عمر الحرب في سوريا، وكما حملت الهجمات الإسرائيلية جديداً في خطّها، باشرت إيران خلال العام الماضي وبشكل أكثر وضوحاً، بتوطيد نفوذها العسكري، والمزاحمة للحصول على المزيد من العقود والامتيازات الاقتصادية بشكل “رسمي” ومعلن في سوريا.
عسكرياً، أكدت مصادر محلية أن ميليشيات إيران تعمل بجهد، على بناء مراكز ومواقع عسكرية جديدة في الجنوب والبادية، وإنشاء مستودعات أسلحة وذخائر في الجبال وتحت الأرض، إلى جانب نصب منصات صاروخية كثيرة في مواقع قريبة نسبياً من أماكن التواجد العسكري الأمريكي في سوريا.
تسعى إيران من وراء ذلك إلى تجنب أي تراجع لنفوذها العسكري في سوريا، خصوصاً أن روسيا لا تمانع ذلك، كما تريد الانتقام من إسرائيل والتخفيف من هجماتها، بتهديد القوات الأمريكية في سوريا، ودفع واشنطن صاحبة الصوت المسموع في تل أبيب، إلى “تهدئة” غير معلنة.
اقتصادياً، وسّعت الحكومة الإيرانية قنواتها الاقتصادية مع حكومة نظام الأسد، وتبادلت معها الزيارات المعلنة، وزادت من كثافة التفاهمات وتوقيع العقود والقبض على الامتيازات، في مجالات البناء والاتصالات والطاقة والتجارة وصناعة الآليات وغيرها.
وأعلنت الحكومة الإيرانية الجمعة 14 كانون الثاني، الاتفاق على فتح مصرف مشترك مع نظام الأسد، وذلك بعد زيارة وفد اقتصادي إيراني كبير إلى دمشق، يرأسه وزير الطرق والإسكان رستم قاسمي، لمناقشة “سبل تطوير التعاون الاقتصادي”.
وكان قد تسلم قاسمي مؤخراً رئاسة الجانب الإيراني في ما يسمى بـ”اللجنة الاقتصادية السورية – الإيرانية المشتركة”، خلفاً للوزير السابق محمد إسلامي.
وكان قد أعلن الوزير قبل نحو 3 أسابيع، عن بدء الخطوات العملية لتنفيذ مشروع الربط السككي مع العراق وإلى سوريا، وقال إن بغداد وطهران اتفقتا على تأسيس شركة مشتركة للتنفيذ وإنشاء جسر لعبور القطارات بعد انتهاء المشروع.
وفي وقت سابق من هذا الشهر، أعلن رئيس الغرفة التجارية الإيرانية السورية كيوان كاشفي أن الصادرات الإيرانية إلى سوريا سجلت نموا بنسبة 90 في المئة خلال الأشهر التسعة الماضية.
كما أعلنت وزارة النفط الإيرانية مع دخول العالم الجديد، عن “برنامج تعاون مشترك” مع نظام الأسد في سوريا، ودول ما يسمى “محور المقاومة”.
وتأتي هذه الهرولة الإيرانية في ميدان الاقتصاد السوري، تزامناً مع إقبال دول عربية جديدة على التطبيع السياسي والاقتصادي مع نظام الأسد، في مقدمتها الأردن والإمارات، في خطة “خطوة مقابل خطوة” التي وضعتها عمّان بموافقة الإدارة الأمريكية، والهادفة بشكل رئيسي إلى إعادة نظام الأسد إلى العائلة العربية، ومنحه ما يريد من المكاسب السياسية والاقتصادية على دفعات، مقابل إقدامه على اتخاذ خطوات تؤدي بعضها إلى تحجيم النفوذ الإيراني في سوريا وتقليصه إلى أبعد مدى.
رحب المسؤولون الإسرائيليون بحرارة بموجة التطبيع العربي مع نظام الأسد، معتبرين أنها فرصة حقيقية لإنهاء الوجود الإيراني في سوريا. بطبيعة الحال الخطة الوليدة “خطوة مقابل خطوة” لا مؤشرات على نجاعتها حتى الآن، في ظل هذا الانسداد السياسي والأزمة الاقتصادية الخانقة في سوريا.
الوجود.. أو القليل منه
الشهر الماضي، قال مسؤولون إسرائيليون إن إسرائيل دمرت 75% من الأسلحة الإيرانية في سوريا، وحققت “أقصى درجات الردع”، وأشاروا وفق ما نقلت صحيفة “جيروزاليم بوست” إلى أن “بعض الأسلحة المدمرة صنعت في إيران وتم تهريبها إلى سوريا براً وجواً وبحراً، وبعضها غير ضروري على الأراضي السورية نفسها”، وتحدثوا عن هجمات استهدفت طائرات بدون طيار وصواريخ ومكونات أنظمة الدفاع الجوي، والبنى التحتية لإنتاج الأسلحة.
هذه التقارير مؤشر إضافي على ثبات الموقف الإسرائيلي في صراعه مع الوجود الإيراني في سوريا، وقد لا تحد هذه الهجمات من رقعة النفوذ الإيراني في سوريا حالياً، إلا أن تل أبيب تراهن على ذلك في ميزان الزمن والتحولات السياسية.
من جانبها، فإن طهران عازمة على المضي بـ”المقاومة” إلى النهاية، وإن خسرت النفوذ العسكري على الأرض، من المتوقع أن تتجه بشكل متسارع إلى تعويضه بالقبض على أي مكاسب اقتصادية متوسطة أو طويلة الأمد في سوريا، وفي هذه الحالة لن تكون الدول الغربية شديدة التعنت، بل قد يكون هذا الحل، هو “الجزرة” أو “الوجبة” التي تدفع الدول المؤثرة إيران لتناولها قبل الخروج من سوريا.