جسر: ثقافة:
نستطيع وصف السلطة في الحضارات القديمة لبلاد الرافدين بالديمقراطية البدائية، حيث اتخذت شكلا هو أقرب ما يكون إلى حكومة من الرجال الأحرار يشكلون مجلسا من الشيوخ الأقدر على التعامل مع المجتمع وحاجاته، وما إن تمر البلاد بأزمة أو تواجه غزوا، حتى يبادروا إلى اختيار شخص محدد يحكم لفترة محدودة، وعادة ما يتم اختيار شخص ديكتاتوري قادر على التعامل مع الأزمة وحلها، لكن وما أن تنتهي الأزمة حتى يعود هذا الشخص من حالة السلطة والحكم المطلقين إلى منزلة المواطن البسيط كأي فرد من أفراد المجتمع. ويؤيد ذلك البروفيسور هنري فرانكفورت في كتابه (قبل الفلسفة: المغامرة الفكرية للإنسان القديم) بقوله: إنه ربما دُعمت وجهة النظر هذه بحقيقة وجود تسمية سومرية لهذا الشخص هي (لوجال – Lugal) وتعني “الرجل العظيم”، والإشارة المسمارية لكلمة لوجال مرادفة للكلمة الأكادية “شارّو”، والتي تشير إلى الرجل الذي يضع شيئا على رأسه، ومن المحتمل أنه التاج الذي جعل منه رجلا عظيما.
وفي نصوص ملحمة الخلق السومرية، نجد أن الآلهة عندما كانت مهددة بثورة العالم السفلي بقيادة الآلهة تيامات (الآلهة الأساسية وهي تجسد الماء المالح وأم الآلهة)، قاموا باختيار أحد الآلهة الأصغر من بينهم وهو “مردوخ” للتعامل مع هذه الثورة، فقاموا بمنح السلطة المطلقة له للتصرف، ويبدو هنا أن هذه الأسطورة تشكل انعكاسا لعملية اختيار الملك. وفي نصوص أخرى من ملحمة جلجامش، نجد أن اﻷخير يمثل الممارس المُستبد للسلطة على مدينته؛ بحكم أنه ملك أوروك والذي تُظهر الأسطورة أنه ممثل لمجلس الشيوخ ومختار من قبل الأشخاص الأكبر سنا، وعلى الرغم من الإشارات التي وضعها البروفيسور فرانكفورت حول أن مصدر السلطة كان عن طريق انتخاب المجلس له، فإننا نجد في بداية الألف الثاني قبل الميلاد أن حمورابي يعلن نفسه ملكا باعتراف إله السماء “آنو” والإله “بل”، وبشكل عام فإن الملوك الآشوريين يصفون أنفسهم في ألقابهم ونقوشهم كمُقربين من الإله “نينيب”، ويُظهرون أنفسهم كأشخاص مختارين للملوكية من قبل الإله. وبهذه الحالة فمن المحتمل تفسير الصيغة القديمة “الملكية نزلت من السماء” كدلالة على الاعتقاد القديم أن الملكية كانت هدية الآلهة.
ويذكر الدكتور زهير صاحب في مقالته (سلطة القصر والمعبد في عهد حمورابي 1792 ـ 1750 قبل الميلاد) أن العصر البابلي القديم شهد ظاهرة تعاظم سلطة الملك وانفصال السلطات التشريعية والتنفيذية المتمثلة به عن السلطة الدينية المتمثلة بالمعبد وطبقة الكهنة. فرغم احتفاظ الملك بصفته الدينية بوصفه ممثلا للآلهة في حكم البشر، فإنه صار سيدا مطلقا على جميع أرجاء مملكته. وبلغت هذه الخاصية في نظام الحكم أوجها إبّان حكم الملك حمورابي، إذ تم نقل جميع السلطات من هيمنة المعبد إلى القصر، فأصبحت مجالات القضاء وشؤون المحاكم وطبيعة الحياة في معظم تفاصيلها “علمانية” النزعة إن جاز التعبير، بعد أن كانت دينية كهنوتية مصدرا وممارسة.