قُتِلَ قبل أيام، وائل جمال الدالاتي الملقب “أبو عدي”، أحد عناصر مليشيا “قوات الغيث” التابعة لـ”الفرقة الرابعة”، في جبهة كبينة في جبل الأكراد بريف اللاذقية الشمالي. وكان أبو عديّ قد استدعي إلى جبهة كبينة، مع عشرات “المصالِحين” من جنوبي دمشق، قبل أقل من شهر.
من الحرّ إلى الرابعة
وأبو عدي، أصبح مشهوراً بعد هتافه: “الله والرابعة … الرابعة تابعة للّه”، في تسجيل مصوّر خلال تجميع عناصر “المصالحات” أمام مبنى “الأمن السياسي” في بلدة يلدا جنوبي دمشق، قبل شهور. فالشاب المغمور، كان قد تقلّب قبل ذلك بين تشكيلات عسكرية متعددة، معارضة وجهادية، وأخيراً موالية لإيران، خلال سنوات الثورة السورية. أبو عدي كان مقاتلاً سابقاً في الجيش الحر، ولم يترك جبهة من جبهات الجنوب الدمشقي إلّا وشارك فيها بالقتال ضد قوات النظام.
أبو عدي، قد يصلح لأن يكون ممثلاً لبعض الشباب الذين كانوا دون الـ18 من عمرهم عندما بدأت الثورة السورية، وعاشوا أحداثها المعقّدة وسيرورة التحولات فيها، من السلمية إلى التسلح، ثم الأسلمة والأدلجة بأقصى درجاتها، وأخيراً امتحان “المصالحة الوطنية”.
هذه الشريحة التي واجهت كل تلك التحدّيات، من دون مرجعية أهلية ولا توجيه اجتماعياً، من دون خلفية دينية أو وعي سياسي متبلور. لذا فإن الحديث عن أبو عدي، على أهمية الحذر من التعميم، يفتح الباب على شريحة لا يستهان بها من رفاقه، الذين كانوا النواة الأولى للجيش الحر، وتحولاتهم أمام المحكّ المفصلي؛ “المصالحة”، بعدما قرروا التراجع أمامها خطواتٍ إلى الخلف، والعودة بالزمن إلى ما قبل آذار 2011، ثم الذهاب إلى ما هو أبعد من ذلك من خلال التطوّع في صفوف قوات النظام، والمحاربة معها ضد “الإرهابيين”، الذي كانوا محسوبين عليهم.
العائلته.. القصة
وائل جمال الدالاتي، تولد 1995، من أبناء حي الميدان الدمشقي، من سكان منطقة دف الشوك حي الزهور، وهو الابن الأوسط لعائلة مكوّنة من الأب والام، و4 أخوة وأخوات. اندلعت الثورة السورية وهو في الـ16 من عمره، عندما كان طالباً في مدرسة “السمح بن مالك” بالزاهرة القديمة، وفي الوقت ذاته، كان عاملاً مع والده، في مجال التمديدات الصحيّة خلال العطل.
والده، جمال الدالاتي، كان ناشطاً في دمشق، ومشاركاً فاعلاً في الحراك السلمي والتظاهرات، ثم في العمل الإنساني، من خلال تأمين المساعدات الإغاثية والمادية واللوجستية، وإيصالها إلى العائلات النازحة من حمص، وأيضاً إلى بلدات ومدن الغوطتين الشرقية والغربية. مع مطلع العام 2012 تنامى دور أبو خالد، واستطاع مع آخرين توفير منزل في حي الزاهرة، مخصّص لتأمين المنشقين عن قوات الأسد، بينهم ابنه الأكبر، وإيوائهم فيه، قبل نقلهم إلى الغوطة الشرقية، لكن ذلك لم يدم طويلاً إذ اعتقلته مخابرات النظام عام 2013، وبعد قرابة 4 أشهر وصل خبر مقتله تحت التعذيب، ليلحق بأخيه وأبناء عمّه وابن اخته، الذين قُتلوا بالطريقة ذاتها.
خالد، الأخ الأكبر لوائل، من مواليد 1993، كان مجنّداً في قوات النظام عند اندلاع الثورة، ويخدم في مطار ديرالزور العسكري اختصاص دفاع جوي، انشقّ منتصف عام 2012، وانضم إلى “لواء أحفاد الأمويين” من الجيش الحر في الغوطة الشرقية، وبعد أشهر انتقل مع مجموعات اللواء إلى مخيم اليرموك والتضامن جنوبي دمشق، عبر طرق التهريب، ليصبح قريباً من أخيه الذي ترك دراسته وعمله، منتقلاً إلى حي القدم المحرّر. وأصيب خالد بـ4 رصاصات، خلال الاشتباكات مع النظام، بعد انضمامه إلى “لواء مجاهدي الشام”.
أواخر 2012 التقى الشقيقان، تحت مظلّة مجموعة عسكريّة واحدة تابعة لـ”لواء أحفاد الأمويين”، المدعوم من “الموك”، وبقيا على هذا الحال قرابة سنتين، شاركا خلالها بعمليات عسكرية عديدة ضد قوات الأسد، أصيب فيها وائل أربع مرّات بجروح متفاوتة. وفي منتصف العام 2014، ومع تنامي الخطاب الجهادي وصعود التشكيلات الإسلامية الراديكالية، بالتوازي أيضاً مع اشتداد الحصار على المنطقة، انضم الشابّان إلى تنظيم “الدولة الإسلامية”، مع المجموعة التي يتبعان لها في اللواء بقيادة “أبو علي الميداني”.
وائل، الفتى غير الملتزم دينياً قبل الثورة، والمتحمّس لقتال النظام بعدها، ثم لشعارات الجهاد، خضع في التنظيم لدورة شرعية كما هي العادة. وكانت هذه النقلة النوعية من فصائل غير مؤدلجة إلى تنظيم عالمي يسعى لإحياء أمجاد “الخلافة الإسلامية”، شائعة في جنوب دمشق في تلك الفترة، إذ أنهك الحصار والجوع المدنيين والعسكريين على السواء. وأدى انخفاض الدعم بشكل كبير عن جميع الفصائل العسكرية، عدا تنظيم “الدولة”، إلى تفكّكها وانفضاض مئات المقاتلين عنها، والتوجّه إلى دولة “الخلافة” حيث الإمكانيات المادية الكبيرة، والرواتب العالية والمساعدات الإغاثية الوفيرة، والتي تبنّت أقصى خطاب جهادي ممكن، كان كافيا لإسقاط الشاب القادم من خلفية مسلمة لا التزام صارماً فيها، عدا تلك التقاليد الاجتماعية المتوارثة في بيئة حي دمشقي كالميدان.
بعد شهرين، رمضان 2014، بدأ تنظيم “الدولة” تحرّكاته لاستهداف فصائل الحر والكتائب الإسلامية، وكان ذلك كافيا لانشقاق الشابين عن التنظيم، والعودة إلى صفوف الحر مجدداً، وهذه المرّة تحت إمرة “حنداشي” ثم “أمين البُّه”، القائدين الميدانيين في “جيش الأبابيل”. وعادا للرّباط والقتال على جبهات النظام والمليشيات الشيعية تارة، و”جبهة النصرة” و”داعش” تارة أخرى، حتّى النصف الثاني من 2017، عندما انتقل خالد للعمل مع المكتب الأمني في ببيلا برئاسة شاهر حمّاد، الملقب “نصار ببيلا”. والمكتب معروف أنه أحد الأذرع المسلّحة لتيار “المصالحة” بزعامة الشيخ أنس الطويل، بينما بقي وائل مع “البُّه”. وكان واضحاً تحضّرهما لـ”المصالحة” مع النظام، والبقاء في جنوب دمشق، وهذا ما رصده أصدقاء وائل المقرّبين من خلال أحاديثهم ولقاءاتهم، ونقلوه لـ”المدن”.
“المصالحة” والانشقاق العكسي
في أيار 2018 بدأ تهجير قرابة 10 آلاف شخص، معظمهم من مدنيي جنوب دمشق إلى الشمال السوري، بعد اتفاق “تسوية” سياسية مع روسيا. وكان قرار وائل مع غالبية عناصر مجموعة “البُّه”، البقاء في المنطقة و”تسوية أوضاعهم”. وما كان صادماً، هو تطوّع المجموعة كاملة في صفوف “قوات الغيث” التابعة لـ”الفرقة الرابعة”، مباشرة بعد “التهجير”، ومشاركتها بعد فترة قصيرة في العمليات العسكرية للنظام في محافظتي درعا والقنيطرة، ثم توكيلها بمهام أمنية على حواجز “الرابعة” في مناطق مختلفة، كان آخرها في محيط مدينة السيدة زينب.
الأخ خالد، العنصر في مكتب ببيلا الأمني، المحسوب على الشيخ الطويل، وقع فريسة في قبضة مخابرات النظام، التي اعتقلته عند ذهابه لاستكمال إجراءات “تسوية الوضع”، بعد شهر من “المصالحة”. ومنذ ذلك الحين انقطعت أخباره بشكل نهائي عمن تبقى من عائلته وأصدقائه المقرّبين.
جمال وخالد ووائل، 3 أفراد من عائلة واحدة، انتهى مصيرهم بطريقة مأساوية، حيث قتل الأب تحت التعذيب في معتقلات الأسد، ثم اختفى الأخ الأكبر في المعتقل رغم “مصالحته” النظام، وأخيرا قُتل الأخ الأوسط إلى جانب قوات النظام. ثلاث قصص، بنهاية واحدة، على يد الجهة ذاتها، كان بعضهم تارة في موقع العدو لها، وتارة أخرى في موقع الصديق، ولو ظاهريّاً. في هذه التجربة خسروا حياتهم، الوالد بسبب الثبات على الثورة، والولدان بسبب التراجع عنها، والاستسلام للنظام.
وائل.. في حضرة العائلة والجماعة
الآن.. يصعب النظر لمجريات الأحداث بعينيّ وائل، اللتين نامتا للأبد، لكن يمكن البناء بحذر على بعض المعطيات المتوفرة، لفهم حيثيات اتخاذ قرار “المصالحة”. ويبرز المعطى العائلي بالدرجة الأولى، كعامل ترجيح للبقاء، باعتبار وائل وخالد يُعيلان من تبقى من العائلة في دمشق، أي الأم والأخت، وما تتيحه “التسوية” من إمكانية لقائهما بعد سنوات من البعد، ما يشكل انفراجة كبيرة تؤخذ بالحسبان، مقارنة بتبعات رفض “التسوية” والتهجير إلى الشمال.
ويتقدّم المعطى الاجتماعي المحلّي، المرتبط بالعقلية المحافظة التي تكرّس حالة من التعلّق بمكان المربى والنشأة، أي دمشق، واستصعاب فكرة الهجرة والغربة، حتى ولو كانت إلى أرض سورية أخرى. فالنظر من هذه الوجهة إلى الشمال السوري كانت نظرة اغتراب ليس إلّا، لا تقيم وزناً لأطروحات الهوية الوطنية والثوابت السياسية بقدر ما للعائلية والمحلّية من دور وتأثير.
لكن هل هناك ما هو أهم؟ ما هو سابق عن المآلات الأخيرة؟ نعم بالتأكيد. وائل في السادسة عشرة من عمره، ابن أبيه، الناشط في الثورة، المتظاهر والإغاثي والداعم للجيش الحر، لم يخرج عن هذه الدائرة، شارك في التظاهرات كآلاف شباب الميدان، ثم شاهد أخاه الأكبر ينشق عن المؤسسة العسكرية تزامناً مع تشكّل نواة الجيش الحر. رأى التظاهرات السلمية وهي تواجه بالرصاص الحيّ، والمدن الثائرة وهي تقصف بالطائرات والمدافع. تأثر بعفوية الإنسان الذي يرى شلالات الدم ويرفض أن يغمض عينيه عنها. تنامت لديه فكرة حمل السلاح، ودخل في “عركة الدم”. وبدل أن يعيش مراهقته، أُثقِلَ بالمعارك والقصف والحصار والجوع والتطرّف، والوحدة، التي تبقيه عاريا أمام الكم الهائل من التجارب.
أمام ما سبق، يبدو جليّا سطوة العائلة على خيارات أفرادها، اليافعين وغير المؤدلجين، المتّكئين على فطرية رفض القتل وحميّة الفزعة الشعبية. وهنا يظهر التأثر على مستويين؛ من ربّ العائلة بشكل مباشر، ومن الأخ والمجتمع المحلّي. لذا عندما غاب الوالد حضر قائد مجموعة “البُّه”، الموجّه الجديد وبوصلة الآخرين في محيطه. لم يعش وائل حياة مستقلة، فرديّة، فيها تنمية الشخصية الواعية، الباحثة عن مستقبلها بناء على أسباب عقلانية، أو التي شكّلت وعياً سياسياً أو ثقافة إسلامية عامّة، على أقل تقدير، تجعل آلية التقييم تمرّ من محاكمة مبدئية ما، بل عاش على الفطرة، وأخذته الحميّة والنخوة، ثم تحول إلى فرد في مجموعة، لا ينقطع عنها، ويربط حياته بها، لذا كان قراره بـ”المصالحة” إضافة للاعتبار العائلي الأوّلي، مرتبطاً بالقرار الجمعي للمجموعة، وبتوجه “الدينمو” فيها.
وينسحب ذلك بشكلٍ كبير على بقية شرائح المجتمعات “المصالِحة”، فقد ساهم الشيوخ المحلّيون من جهة، والوجهاء من كبار العائلات ومثقفيها ومتعلميها من جهة ثانية، وقادة الصف الثاني الميدانيين من جهة ثالثة، في تهيئة الأجواء لقبول أو رفض “التسوية” مع النظام. وهذا ما كان واضحا للغاية في مناطق القلمون الشرقي وجنوب دمشق ودرعا والقنيطرة وحتى ريف حمص الشمالي.
القاتل أم القتيل؟
كان بإمكان وائل ألّا يتصدّر المشهد في الشريط المصوّر بعبارته الشهيرة، لكن ليس غريباً أن تكون الخطوة الاولى بعد “المصالحة” هي التنكّر للثورة، ثم التحول تدريجيّاً إلى التمسّح بالسلطة الجديدة، كدينامية دفاعية وهجومية في آن، وصولا لمرحلة الموت في سبيلها أو على يديها، في أقصى درجات “الملكية أكثر من الملك”.
هذه الخطوة العصية على الفهم في حالة وائل لا يمكن حل لغزها، إلّا إذا تخيّلنا أنه سعى طوال الوقت إلى أن يكون بمأمن عن هذه المواجهة المصيرية مع الموت، بحيث يبقى شعاره خلّبياً للاستعراض أمام العدسات، لا واقعاً من لحم ودم ودموع، وبحيث ينجو من معركة أخلاقيّة حاسمة، تضعه أمام خيارين؛ قاتل أو مقتول، ففي أي موقعٍ كان بالضبط وهو يتلفّظ أنفاسه الأخيرة؟
المصدر: مطر اسماعيل – المدن