جسر: ترجمة:
تشبه العلاقة المضطربة بين رئيس النظام السوري بشار الأسد وابن خاله رامي مخلوف المعروف بأنه “أمين خزائن النظام” في تفاصيلها مسلسلا دراميا ظاهره الخيانات والصراع على السلطة والمال وباطنه محاولات مستميتة من رأس النظام “لتنظيف” الدائرة الضيقة للحكم.
تحقيق مطول لمراسل صحيفة لوموند الفرنسية في بيروت بنجامين بارث سلط الضوء على هذه العلاقة المتقلبة التي اتسمت في بداياتها بالود وتقاطع المصالح اقتصاديا وسياسيا، قبل أن تنقلب إلى صراع “شرس” يسمح فيه باستخدام كل أنواع الأسلحة وأساليب المناورة.
ثلاثة عشر سنة بعد انتخاب الأسد لولاية ثانية في العام 2007 إثر حملة دعائية شارك فيها بقوة ومولها رامي مخلوف، لإظهاره رئيسا “معاصرا” و”متحكما” خلافا لوالده حافظ الأسد الذي حكم سوريا بالدم والنار، انتهى “زمن الود” بين “صديقي الطفولة”.
فقد استولت حكومة الأسد -التي أنهتكها 9 سنوات من الحرب وكتمت أنفاسها العقوبات الدولية- على شركة الاتصالات “سيريتل” المملوكة لمخلوف بزعم تخلفها عن سداد مستحقات ضريبية.
كما جُمدت أصول رامي مخلوف (50 عاما)، واعتقل بعض كبار موظفيه ورجالاته داخل سوريا، في مؤشر واضح على مسعى من النظام لتهميشه وإقصائه من المشهد، بحسب الصحيفة.
رد مخلوف
لكن رامي مخلوف لم ينتظر طويلا للرد، حيث نشر سلسلة فيديوهات في حسابه على فيسبوك انتقد من خلالها الاتهامات بالتهرب الضريبي التي وجهت له، و”تعسف” الأجهزة الأمنية.
وهي كلها تظلمات “مدعاة للضحك” -بحسب لوموند- من قبل هذا الرجل الذي رعى وموّل قمع ثورة الشعب السوري عام 2011، وحاول من خلال فيديوهاته إظهار نفسه على أنه “محسن” الطائفة العلوية التي تحكم البلاد، في تحدٍ ضمني لبشار الأسد.
ويؤكد أيمن عبد النور المعارض السوري والمستشار السابق لبشار الأسد أنه “لو كان أحد آخر غير رامي مخلوف لتمت تصفيته في حينها، لكن هذه الجرأة مردها إلى أن الرجل يحمل اسم عائلة مرموقة يحميه، ولديه الكثير من الأموال مخبأة في حسابات وشركات وهمية بالخارج”.
ويضيف عبد النور -الذي عايش عن قرب كلا الرجلين- أن “هذه الأمور هي الضمان لحياته، وإذا تم التخلص منه الآن فستؤول كل أصوله إلى زوجته وأبنائه في الخارج.. رامي جريح لكنه لم يمت بعد”.
بداية القصة
وتعود جذور العلاقة بين الرئيس بشار الأسد وابن خاله رامي مخلوف إلى علاقة والديهما حافظ الأسد ومحمد مخلوف اللذين جمعتهما السياسة وارتباط المصالح منذ وصول الأسد إلى الحكم إثر انقلاب حزب البعث العربي الاشتراكي عام 1970.
ويعتقد أيمن عبد النور أن “آل مخلوف نظروا دائما إلى أنفسهم على أنهم شركاء لعائلة الأسد في الحكم، لم يكن النظام فقط لآل الأسد، بل كان نظامهم هم أيضا”.
وعندما خلف بشار والده عام 2000 حافظ على إرث وطبيعة العلاقة بين العائلتين، حيث “أهدى” لرامي مخلوف إدارة شركة سيريتل للاتصالات، وكانت حينها شركة رائدة في سوق جديد وواعد.
وكشف موقع “سيريا ريبورت” الاقتصادي أن عقد سيريتل تم توقيعه بعد عرض مناقصة دام أسبوعين فقط في فترة الصيف، تفاديا لظهور أي منافس جاد، لتتحول الشركة بذلك إلى رمز لـ”رأسمالية الأصدقاء” التي يرعاها الرئيس، وهي رأسمالية مختلفة عن تلك التي رعاها أبوه مع آل مخلوف شكلا، لكنها مشابهة لها مضمونا.
تغير العلاقة
في أوائل العام 2001 عقد بشار الأسد قرانه على أسماء الأخرس وهي ابنة جراح قلب سني من حمص ومستقرة في بريطانيا، والتي تعرف عليها أثناء دراسته طب العيون في لندن.
وبفضل صورتها كامرأة “عصرية” وتجربتها في مجال التحليل المالي استقطبت أسماء أنظار الإعلام، لكن ظهورها على الساحة السورية لم يلق ترحيبا من آل مخلوف الذين تمنوا في وقت من الأوقات أن يرتبط خليفة حافظ الأسد بابنتهم وشقيقة رامي، كندة مخلوف.
ويؤكد مستشار سوري عمل عن قرب مع الرئيس وزوجته أن “أنيسة (والدة بشار) ومحمد (والد رامي) كانا معارضين لهذه الزيجة، لكن بهجت سليمان -الرجل القوي في جهاز المخابرات السوري والمقرب من بشار- أقنعهما بقبول الأمر، معتبرا أنها خطوة انفتاح جيدة على الطائفة السنية” التي تشكل أغلبية المجتمع السوري.
وفي عام 2006 أنشأ رامي مخلوف في إطار سياسة تطوير القطاع الخاص شركة قابضة عملاقة سماها “شام”، انضم إليها حوالي 70 رائد أعمال -كلهم سوريون- بصفتهم شركاء، من ضمنهم أسماء وازنة، وكان شعار الرجل في تلك المرحلة -كما يوثق موقع “سيريا ريبورت” في تقرير له- “انضموا لي ولكم نصيب من الكعكة، أو ابقوا بعيدا ولن تحضوا بشيء”.
وفي الفترة ذاتها تقريبا، أطلقت أسماء الأسد مجموعتها الاقتصادية الخاصة تحت اسم “سوريا القابضة”، لكن قيمة الشركة ووزنها لا يقارنان بمجموعة رامي، حيث ضمت حوالي 20 مستثمرا، كلهم من رجال “الدرجة الثانية” في الاقتصاد السوري.
كما أسست زوجة الأسد جمعية خيرية تدعى “سوريا تراست” (الأمانة السورية للتنمية)، وهي أول منظمة غير حكومية في تاريخ البلاد.
لكن أنيسة وابنتها بشرى (والدة وأخت بشار الكبرى) عملتا جاهدتين على كبح طموحات زوجة الرئيس، بحسب ما يؤكد أيمن عبد النور، فيما واصل رامي مخلوف تطوير مشروعاته، خاصة بفضل علاقاته في أعلى هرم السلطة، حيث امتدت “إمبراطوريته الاقتصادية” إلى قطاعات جديدة، منها المحروقات والخدمات المالية والنقل الجوي والتأمين.
ولم يكن بشار الأسد ينظر بعين الرضا إلى هذه “الشراهة في الاستثمار” التي اتسم بها رامي كما يؤكد ذلك رجل أعمال متنفذ في العاصمة السورية.
ونقل عن رامي مخلوف يوما قوله -خلال اجتماع مع شركائه، بعد أن ضرب بقوة بيده على مكتبه- إن “لدينا المال، ولدينا السلطة”، كما قاطع كلام أحد الوزراء الذين نصحوه يوما بمراجعة طموحاته بغضب “أريد الكعكة كاملة”، بحسب ما ورد في كتاب “الأسد أو نحرق البلد” الصادر عام 2019 للصحفي اللبناني الأميركي سام داغر.
تسريح وعقوبات
بدأت المشاكل فعليا بالنسبة لرامي مخلوف في صيف 2019، وذلك عندما حاصر جنود الجيش السوري مقر مليشيا تابعة له في دمشق، حيث تم تسريح كل من كانوا ضمنها ودمجهم في صفوف القوات النظامية.
كما جرى في نفس الفترة طرد مسؤولي مؤسسة البستان الخيرية التي أسسها مخلوف عام 2011 لمساعدة عائلات قتلى جنود النظام، خاصة من الطائفة العلوية، وتم الاستعاضة عنهم بآخرين موالين للسلطة.
وتلا ذلك فصل من العقوبات المالية، حيث تم تجميد أصول شركة “آبار للبترول” -وهي إحدى ركائز إمبراطورية مخلوف الاقتصادية- في ديسمبر/كانون الأول 2019.
وفي منتصف أبريل/نيسان الماضي أعلنت الحكومة السورية أنها تطالب بـ233 مليار ليرة سورية (حوالي 180 مليون دولار في ذلك الوقت) من شركتي سيريتل، و”إم تي إن” الشركة الثانية في سوق الهواتف الذكية بسوريا كمتأخرات ضريبية، ليقوم رامي مخلوف “المنبوذ الجديد” في عين النظام -بحسب الصحيفة- بعدها بنشر فيديوهاته الغاضبة التي كشفت تفاصيل القضية.
استفزاز وانتقام
شكّل الحادث -وفق تحقيق لوموند- “انتقاما” من أسماء الأسد “الطموحة” من رامي مخلوف، وجاء بعد فترة قصيرة فقط من نشر نجليه -علي ومحمد- صورا “مستفزة ربما لأسماء الأسد” توثق قضاءهما عطلة صيف باذخة على متن سيارات فارهة في أزقة مونتي كارلو وشواطئ ميكونوس اليونانية.
وفي هذا الإطار، يقول أيمن عبد النور “تفكر أسماء في أبنائها، فهي تريد تأمين مستقبلهم على المدى الطويل.. لم تعد راضية عما يدفعه رجال الأعمال الموالون للنظام، تريد الاستيلاء على أصولهم (آل مخلوف) وتضعها تحت اسمها واسم بشار، بوصفها موظفة بنك سابقة تؤمن بأنها قادرة على إدارة هذه الأصول”.
بدوره، لا يرى بشار ضيرا في تذكير ابن خاله بقواعد اللعبة، ففي رأيه “رامي كان دائما مديرا وليس شريكا، وهذا هو سوء الفهم الذي سبب المشكلة كلها”، بحسب ما يعتقد أحد رجال الأعمال الدمشقيين المقربين من النظام.
كما لا يرى الرئيس حرجا -وفق الصحيفة- في “وضع يده في جيب” صديق الطفولة، فيما جيوب نظامه في حاجة ماسة إلى الدولارات لاحتواء الانهيار المتواصل لليرة السورية وانهيار القوة الشرائية للسكان الذين أنهكتهم سنوات الحرب.
ويتوجب عليه أيضا “تهدئة” حلفائه في موسكو وطهران الذين ينتظرون على أحر من الجمر الحصول على مقابل لقاء الدعم الذي قدموه له على مدى السنوات التسع الماضية، ولعل نشر عدة مقالات تنتقد الأسد في وسائل الإعلام الروسية مؤخرا فهمته دوائر الحكم في دمشق على أنه إشارة إلى أن صبر الحليف الروسي بدأ ينفد، بحسب لوموند.
قضاة العائلة
وتضيف أن غياب كل من أنيسة ومحمد مخلوف (والدة الأسد وشقيقها) في هذه الأزمة التي تبقى “عائلية” رغم كل شيء -وهما اللذان لعبا على الدوام دور “قضاة العائلة”- كان له الأثر الواضح على سير الأحداث، فقد توفيت أنيسة عام 2016 بدمشق بعد أن عاشت لفترة في دبي برفقة ابنتها بشرى، فيما يكابد محمد مخلوف المرض في العاصمة الروسية.
ويرى مدير “معهد عصام فارس” في الجامعة الأميركية ببيروت الباحث جوزيف باحوط أن “وفاة والدته وابتعاد شقيقها حررا بشار الأسد من وصايتهما، لذلك أصبح الوضع الآن لا يطاق”.
وبحسب معلومات خاصة، قالت لوموند في تحقيقها إن اتصالات لا تزال جارية بين المعسكرين، وذلك من خلال اثنين من زعماء الطائفة العلوية البارزين -هما غسان مهنا عم رامي مخلوف، وسليمان حداد سفير سوريا السابق في برلين- من أجل نزع فتيل الأزمة.
وترى أن هذه المساعي ستحدد على الأرجح ما إذا كان رامي مخلوف سيتمكن من البقاء داخل سوريا، أم أنه سيضطر إلى حزم أمتعته والانضمام إلى والده في موسكو.
وتؤكد الصحيفة أن نظام الأسد ربما استطاع أن يجتاز بـ”نجاح” الأزمة الحالية التي تتهدده من الداخل، بل قد تشكل مؤشرا على “عودة قوية” لبشار الأسد.
وتضيف -نقلا عن الباحث جوزيف باحوط- أن “بشار تمكن فعلا -كما كانت عادة والده حافظ الأسد- من تنظيف الدائرة الضيقة المحيطة به.. قبل سنتين فقط لم يكن بإمكانه إطلاقا الاستغناء عن رامي لكن الآن فعل، وهذا دليل صحة”.