جسر: صحافة:
رغم أن اللواء عدنان الأسد كان قد قارب السبعين عند قيام الثورة؛ فإنه سارع إلى وضع نفسه في خدمة ابن عمه، كي يستفيد الرئيس الشاب من التجربة المديدة التي حصّلها الضابط المتقاعد إبان تأسيسه وقيادته لقوة موازية برزت منذ السبعينيات تحت اسم «سرايا الصراع»، ولعبت دوراً حاسماً في ترجيح كفة عمه حافظ على «سرايا الدفاع» التي كان يقودها عمه الثاني رفعت.
لسبب نجهله، ويجهله اللواء، لم يرد بشار الاستعانة بهذه الخبرة. وظل أبو ياسر يعاني من الحرقة لقتال «الإرهابيين» فيما هو يقضي شيخوخته في القرداحة، حتى صار ذلك يراوده في نومه، كما يقول. إلى أن جاء ذلك اليوم في ختام آب 2012، عندما كان «الوطني الشريف» بشار الجعفري، مندوب النظام في الأمم المتحدة، يلقي كلمة في مجلس الأمن فيعقب عليها لوران فابيوس، وزير الخارجية الفرنسي وقتئذ، مذكراً الجعفري أن جد رئيسه، سليمان الوحش، كان أحد الموقعين على وثيقة تؤيد انفصال العلويين عن باقي سوريا، وتطالب المنتدبين الفرنسيين بعدم الانسحاب منها.
حينئذ وجد أبو ياسر الدور المنشود له بعد أن خُلِّف مع القواعد، وفاته طعنُ القنا وخفق السكود. فالنضال بالقلم لا ينقص عن القتال بالبندقية والدبابة والكيماوي والحصار والتجويع. ولا شك أن استحضار هذه الرواية عن جده لا يستهدف صاحبها الذي توفي من عشرات السنين، بل النظام السياسي القائم. فهي جزء من المؤامرة الكونية على سوريا وسلالة حكامها الأسديين. ومن أجدر من عدنان، الذي صار يعدّ نفسه «كبير العائلة»، للتصدي لهذه الفرية ودفع تلك التهمة. لقد آن الأوان ليباشر كتابة المشروع الذي يراوده منذ أعوام، وهو تدوين مذكراته الشخصية، وسيرة العائلة، مع ما تيسّر جمعه من تاريخ الطائفة. مركّزاً على نفي الوثيقة الفرنسية، وهو الأمر الذي أفرد له أكثر من مائة صفحة من أصل ألف وخمسمائة تكوّن منها كتابه الأول.
تحت عنوان صغير هو «مذكرات وآراء وأبحاث» صدر الكتاب في جزأين؛ الأول بعنوان «كشف المجهول في الأصول والفصول»، والثاني في مجلدين منفصلين تحت عنوان هو «أصحاب اليمين وأصحاب الشمال».
أما وجود العائلة في المنطقة فيؤكد أنه قديم منذ بدايات الحكم العثماني لسوريا، مع جد العائلة وقتئذ المقدم محمد سليمان
الجزء الأول هو الأهم. إذ يتناول أصل العائلة التي تعود، كما يزعم اللواء، إلى يعرب بن قحطان، مروراً بعشيرة الكلبيين التي يسميها «أم العشائر». أما عن وجود العائلة في المنطقة فيؤكد أنه قديم منذ بدايات الحكم العثماني لسوريا، مع جد العائلة وقتئذ المقدم محمد سليمان، الذي تفرعت منه «العيلة» التي سكنت حياً في القرداحة عرف بهذا الاسم نسبة إليها، وصولاً إلى الجد المعروف سليمان الوحش وذريته، وهو الجد المباشر لحافظ، بعد أن أخذت العائلة كنيتها الأسد في عهد أبيه علي. وسوى حديث عدنان عن عراقة عائلته وكرمها وشجاعة سلالتها وشجرتها، فإنه يفرد صفحات كثيرة من هذا الجزء للتشكيك في الوثيقة المشار إليها أعلاه.
أما مجلدا الجزء الثاني فهما أقرب إلى الأمالي التي جمع فيها اللواء صفحات طويلة عن تاريخ الطائفة ومشايخها وعاداتها وزياراتها من مراجع كثيرة متاحة تتناول تاريخ العلويين وسوريا واللاذقية. ويراوح هذان المجلدان بين الاستشهاد بالشعر والروايات الشعبية غير الموثوقة. وفيه حديث عن عشائر العلويين وشيوخهم ورموزهم، مما يجعل منه كتاباً بملمح طائفي في نهاية الأمر.
في صفحته على فيس بوك، التي أنشأها منذ نحو عام، يوضح عدنان الأسد قصة منع هذا الكتاب من النشر. فقد أرسله في البداية إلى وزارة الإعلام لنيل الموافقة كما يقتضي القانون، لكن زمناً طويلاً مرّ دون أن يقرؤوه ويجيبوا. فاسترجعه وأرسله إلى القيادة القطرية، بعد اتصال بعضوها مهدي دخل الله الذي وعد بالاهتمام، لكنه ماطل حتى ثار غضب عدنان من جديد وأعاد الكتاب إلى وزارة الإعلام بمعيّة مدير الرقابة فيها نبيل عمران، فجاءه الكتاب سريعاً مع ملاحظات حمراء تحول دون نشره وتعبّر عن «حقدهم الدفين وغبائهم اللعين».
بعد جولة أخرى بين هلال هلال، الأمين القطري المساعد لحزب البعث، ومحمد رامز ترجمان، وزير الإعلام وقتئذ، ووزارة الثقافة أيام محمد الأحمد، لم يستطع المتقاعد النزق أن يحصّل حقاً ولا باطلاً. فثار غضبه إلى أقصاه مهدداً هؤلاء المسؤولين أن كتابه سيطبع رغم أنوفهم. وهنا ورده الاتصال الذي يُفترض أن يكون حاسماً، من محمد دعبول مدير مكتب بشار في القصر الجمهوري، وقتئذ، يطلب منه عدم النشر.
لم يقتنع ابن العم، وأجاب أبا سليم أن خصومه الأوغاد، المشار إليهم أعلاه، كذبوا على «السيد الرئيس» في شأن مضمون الكتاب. وتجاوز توجيه ابن عمه وبادر إلى إخراج كتابه على نفقته الخاصة، في مطبعة تعمل في النطاق الجغرافي لنفوذ حزب الله في بيروت، ونقل نسخه إلى اللاذقية، ليبيع بعضها في مكتبة الإمام جعفر الصادق، ويوزّع أكثرها كهدايا لأقاربه وأصدقائه وزواره.
بعد أن نجح هذا الأمر، عام 2017، تفرّغ اللواء لكتابة سيرته الذاتية في ثلاثة أجزاء أخرى بعنوان «مذكرات ناطور»، صدر الأول منها وأخذ طريقه إلى التوزيع الشخصي كسابقه، بينما ينتظر الثاني والثالث أن يبصرا النور بعد أن تلقت المطبعة نصيحة سياسية بعدم تكرار التجربة.
يتفق عارفو اللواء على أنه راكم ثروة وأملاكاً أثناء قيادة «سرايا الصراع» التي كانت وحدة عسكرية أشبه بالقطاع الخاص. أما هو فينكر هذا بحدة على الدوام، قبل أن يكتب «الناطور» أخيراً أن حرائق الساحل، في الشهر الماضي، أدت إلى خسارته تسعة آلاف شجرة زيتون، وأكثر من عشرين ألف شجرة سرو، ومئات أشجار الصنوبر الثمري، وكلها بعمر الخمسة والأربعين سنة، في موقعين فقط من أراضيه في الريف اللصيق بالقرداحة.