جسر: فلسطين:
هي بلدة حافلة بالقصور التاريخية والتراثية، بلدة ارتبطت بذاكرة طفولتي من حكايات سمعتها عنها من المرحوم والدي ومن العديد من كبار السن، وحكايات سمعتها حين كبرت بالعمر من أشخاص تعرفت عليهم في مسيرة الحياة ينتسبون لهذه البلدة أو يعرفونها، وحكايات سمعتها من زوجتي ختام جيوسي وابنة عمتي والتي كانت تزور عماتها المتزوجات في هذه البلدة الصغيرة المساحة ولكن لها ذاكرة كبيرة في مسيرة الوطن وتاريخه، فتراكمت هذه الحكايات حتى شكلت رغبة جامحة لزيارتها والكتابة عنها وتوثيقها بالقلم والعدسة، وكنت قد جهزت نفسي أكثر من مرة لزيارتها ولكن كانت هذه الزيارات تتعطل لأسباب خارجة عن ارادتي، حتى تطوع صديقي وابن بلدتي جيوس الأستاذ سامح سمحة وهو له دور جميل بالتجوال معي وتعريفي ومرافقتي إلى العديد من الأماكن لتنسيق هذه الزيارة، فتم توجيه الدعوة لزيارتنا من الأخ عزمي الجيوسي رئيس المجلس القروي الذي اعتذر يوم وصولنا فلم نلتقيه لظرف طارئ دفعه للاعتذار ومغادرة كور، فالتقينا كما كان مقررا لنا الأستاذ فريد عصمت الجيوسي الذي رافقنا الجولة طوال ساعات لتعريفنا على قصور كور.
ما ان اطللنا من الوادي على بلدة كور وهي تعتلي قمة المرتفع حتى شعرت بالدهشة من المشهد، فطلبت من صديقي سامح التوقف كي التقط مشاهد شاملة للبلدة من موقعنا، وما ان اقتربنا من مدخل البلدة حتى كانت دهشة المشهد تتملكني، فنزلت من السيارة وبدأت بالتقاط الصور قبل اللقاء بمضيفنا الأستاذ فريد، وما هي الا دقائق حتى وصلنا وبعد التعارف وعبارات الترحيب من مضيفنا حتى بدأنا بالجولة بزيارة قصر الشيخ يوسف واكد الجيوسي، والذي سكنه مع ابنائه الصغار بينما عمل على بناء مجموعة قصور لكل ابن من ابنائه الكبار فقد أنجب ستة عشر ابنا وابنة واحدة، فكانت قصور كور المتميزة أحد عشر قصرا على شكل قلاع ضخمة وواسعة، والشيخ يوسف الواكد هو ابن للشيخ حرب مؤسس مشيخة كور، ولكن بمجرد أن بدأنا جولتنا وشاهدت حجم الخراب في هذه القلاع حتى انتابني الألم، وتذكرت جولتي في اوروبا في الصيف الماضي حيث جلت وزوجتي ختام وأخي جهاد وزوجته الرائعة أمل 10 دول و37 مدينة وبلدة، حيث وجدنا حجم الاهتمام بكل أثر تاريخي أو تراثي صغير أو كبير، وهم لا يمتلكون بلدة تراثية تمتد لمئات السنين مثل بلدة كور، بينما نحن نهمل تراثنا وأثارنا وذاكرتنا الا ما ندر، بينما هذه الآثار والقلاع والممتدة عبر الوطن وليس في كور وحدها لو رممت لأصبحت قبلة للزوار والسياح ومصدر دخل كبير للوطن، وزيارتي لأوروبا ستنشر مقالاتي عنها لاحقا.
على مدخل قصر الشيخ المؤسس لهذه القصور وعلى اعلى البوابة حجر منقوش عليه اربعة ابيات شعرية تشيد بمن بنى هذا الصرح وتقول هذه الأبيات الشعرية: ” دار السعادةَ أشرقت أنوارها من أمنها ينجو من الأقدارِ، بالله يحرسُ من قد شادها بالعز والتأيد والأنوار، هو يوسف الجيوسي حاتم عصره كم في الورى شاعت له الإخبارِ، قد حاز أجناس الكمالِ مع السخا مثل شوارقِ الأنوارِ، تاريخها عز سرورٍ كاملٌ لكم الهنا يا ساكنين الدارِ”، مؤرخ تحت الأبيات بتاريخ 1756م كما قرأت ومع وجود مسح للرقم فممكن ان يكون 1771م كما اشارت بعض المصادر، والنقش على حجر مزروع بالجدار على عمق عدة سنتمرات وبجواره على الجانبين نقش على حجرين صورة أسود كرمز للقوة للشيخ يوسف وسيطرته، وبوابة ضخمة قوسية من الأعلى، وبوابة الدخول كما القصور لكبار القوم من حكام ومشايخ في هذه الإقطاعيات التي عرفت بالعهد العثماني كانت محصنة وتسمح للفرسان بالدخول على ظهور الخيول للساحة الداخلية، واسطبلات الخيل دوما كانت تكون في الداخل، وطبعا بكل أسف أن البوابة المصفحة الأصلية لم يعد لها وجود وتلك البوابات كانت من الخشب المتين ومصفحة بالحديد ولها بوابة اصغر لدخول الراجلين تسمى “الخويخة”، وهذه الخويخات كانت ترتفع عن الأرض وتكون صغيرة الحجم مما يجبر الداخل على الانحناء، وهذه بعض من اساليب الحماية والدفاع في حالة هجوم يؤدي لاقتحام الخويخة فيتمكن المتحصنون بالداخل خلف البوبة من قتل من يدخل، اضافة لوجود عوارض معدنية ضخمة تعطي للبوابة قدرة دفاعية أكبر، وهذه العوارض ترتبط بحلقات معدنية بحجارة جانبي البوابة.
والبوابة جزء من جدار قوسي كبير ولكنها تدخل في هذا الجدار السميك جدا حوالي 35 سم من الداخل ومن الخارج، والحجارة اعلاها منقوش عليها الكثير من النقوش الرمزية الدالة على المكانة الاجتماعية والرسمية لصاحب القصر، والجدار المحيط بالقصر مرتفع عدة امتار ومن حجارة كبيرة وسمك كبير يحصن الموقع جيدا، وفوق البوابة “علية” لها نافذتان تسمحان بكشف من يأتي باتجاه القصر من البعيد، وكما نظام البناء المعتاد اعلى النوافذ على شكل أقواس ولكن بجوارهما من الجهتين بروز حجري للخارج واعتقد انه كان بها فتحات صغيرة واضح اثرها وإن اغلقت مع الزمن، وهذه الفتحات كانت تستخدم للدفاع عن القصر اذا اقترب أحد من الخصوم من بوابة القصر، وفي معظم القلاع والقصور الضخمة في جولاتي في فلسطين وخارجها كنت اشاهد هذه الأساليب الدفاعية، وفي السور المحيط بالقصر من الواجهة الأمامية نجد الفوهات الدفاعية في أعلى السور، وما ان عبرنا البوابة الى ساحة القصر حتى كنت اقف اتأمل ما اراه وأتخيل كيف كان، فمساحة القصر التراثي تبلغ 100×50 مترا، وفيه ساحة كبيرة تضم العديد من آبار المياه التي كانت تعتمد على الأمطار وتلبي حاجات من يسكنون القصر.
القصر مبني على نظام العقود المتصالبة ولكن معظم هذه القصور كان يعلوها قباب اضافة للمحدبات التي تصنعها العقود المتصالبة وتمنع تجمع الأمطار على الأسطح، ولعل اضافة القباب فوق القصور لتعطي هيبة أكبر لها فهي اشبه بقباب المساجد، وحول الساحة وخاصة على اليمين واليسار وفي الواجهة امام الداخل للقصر بيوتات السكن والاستخدامات ومقابلها اسطبلات الخيول، وفي جانبي القصر الضخم وجزء من الواجهة يوجد طابق ثاني في البناء، والأغلب انها كانت للنساء وخاصة في الزاوية البعيدة عن البوابة، والشرفات امامها تحجبها جدران مزخرفة بالفخاريات فتحجب من فيها عن الجهة المقابلة، وبكل اسف رأيت ان الجزء الفارغ والفاصل بين الجناحين بدأ اضافة بناء من الطوب فيه، مما سيشوه القصر ومشهده التراثي، وفي الطابق الأسفل البناء على شكل اقسام منفصلة عن بعضها البعض بالجدران الداخلية، ولكل قسم بوابة قوسية كبيرة وفيه باحة يليها جدار به البوابة القوسية ونافذة، ولكن قام البعض ممن يسكنون في القصر من الورثة ببناء جدر ليكتسبوا المساحة في الباحة من أجل توسعة سكنهم، ولكن هذا شوه تماما المشهد الحقيقي للقصر وخاصة حين يكون الجدار المضاف بالاسمنت أو الطوب، اضافة لبناء بعض الغرف الاسمنتية او من الطوب بجوار السور الأمامي من الداخل، وهذا شوه المشهد العام للساحة وللقصر فيظهر أنه ليس هناك رقيب ولا حسيب على ما يجري بالقصر ويفقده بعض من رونقه وذاكرته.
بعد انهاء الجولة في الساحة وما يحيطها عدنا للبوابة لنصعد السلم الحجري المواجه للبوابة، حيث العلية فوق البوابة والجناح المواجه لها ولكنها كانت مغلقة من الساكنين فيها، ولكن هذا اتاح لنا المجال جيدا لرؤية مساحات جميلة أخرى من مساحات بلدة كور، والتي كانت أحد قرى الكراسي في فلسطين، وهذه الاقطاعيات التي نشأت في العهد العثماني وفي رعايته من خلال دعم ملتزموا الضرائب “المكلفين بتحصيل الضرائب” كممثلين للحكومة العثمانية مما منحهم القوة والثروة وحكم المناطق التي وضعت تحت سيطرتهم، والذين تحولوا الى اثرياء جدا وامتلكوا القصور والأراضي والقلاع، تحتاج لدراسات أكثر واهتمام أكبر، فهي تمثل مرحلة مهمة في فترة الحكم العثماني وتاريخ فلسطين فقرى الكراسي وصلت الى 27 قرية حكمت مناطق مختلفة من فلسطين، وقد تم ترميم بعض هذه القصور والقلاع فقد شاهدت في تجوالي وترحالي في الوطن ما تم ترميمه وما بقي عرضة لتأثيرات الزمان، وكور بكل أسف من البلدات التي لم تحظى على الاهتمام الكافي ولم يتم الا ترميم واجهة قصر واحد من خلال مركز الاعمار الشعبي “رواق”، وفي الحلقة القادمة ان شاء الله سيكون الحديث عن القصور الأخرى في بلدة كور ونشأتها وتاريخها.
صباح لطيف في رام الله رغم ارتفاع درجات الحرارة عن معدلها السنوي العام، أحتسي قهوتي وانا استعد لانهاء زيارتي لهذه المدينة التي عشت فيها ما يزيد عن 20 عام فنشأ بيني وبينها حكاية عشق متميزة، واستذكر زيارتي لبلدة كور القريبة على بلدتي جيوس في 22/2/2020، فأشعر بالأسف والألم ان تترك هذه البلدة بدون ترميم شامل، فتخرج زفرات مشوبة بالأسى والألم، واستمع لشدو فيروز: ” يا جارة الوادي هل ينسى الذي كان يوم العشية نهواها و تهوانا، اللوز يزهي و الدنيا على مرح دفء يهل أناشيد وألوان، و من بعيد يد بيضاء تسألني أخلفت وعدك لي هل تقبل الآن، تلك اليد اليوم رغم البعد ألمحها تومي و تسأل هل ينسى الذي كان”.
فأهمس: صباحك أجمل يا وطني.. صباحكم أجمل..
“رام الله 19/8/2020