جسر – صحافة
همس وليد المعلم خوفاً من أن يسمعه السائق: «هالولد بيدخّلنا في المشاكل»، فردّ ضيفه الواصل للتو، المبعوث السعودي بندر بن سلطان: «لن يدخلكم في مشاكل، لأنكم الآن في وسط المشاكل». كان بشار الأسد قد وافق على أن تستدعي اللجنة الدولية الخاصة بمقتل رفيق الحريري ضباطاً سوريين كباراً ربما كانوا على صلة بالجريمة، بمن فيهم ماهر الأسد وآصف شوكت، شقيقه وزوج أخته. ولما تم الاتفاق أبلغ بندر بن سلطان ملكه عبد الله بن عبد العزيز، الذي كلفه إخبارَ الرئيس الفرنسي وقتئذ، جاك شيراك، الذي خرج على الإعلام مصرحاً بهذا التطور، ونقله إلى الأمين العام للأمم المتحدة. لكن خارجية دمشق، وبلسان وزيرها الراحل مؤخراً وليد المعلم، نفت ذلك، وأعلنت أنها لم تعد بشيء، ولن تسلم أحداً!
إذا كان العلويون هم الأكثر انخراطاً في القتال في سبيل بقاء الأسد، كما يقولون هم أنفسهم قبل أعدائه، فإن ذلك يعود إلى دفاعهم عن «النظام» الذي يمثله ويرأسه
ليست هذه هي المرة الأولى التي يتسرّب فيها رأي لأحد الفاعلين في أعلى جهاز الحكم السوري يشكك بالرئيس الوريث وقدراته السياسية والإدارية. ما يفتح الباب على السؤال عن طبيعة طاقم الأسد وتكوين جمهوره، خاصة مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها خلال أشهر. والحق أن تحليلاً بسيطاً يحوز درجة معقولة من الجدية للجمهور الموالي ربما يفيدنا بأن عدد المؤيدين الفعليين للأسد بالغ الضآلة إلى حد مدهش، لكن ظروفاً مختلفة دفعت الملايين إلى الوقوف في صفه ورفض الثورة القائمة ضده.
وإذا كان العلويون هم الأكثر انخراطاً في القتال في سبيل بقاء الأسد، كما يقولون هم أنفسهم قبل أعدائه، فإن ذلك يعود إلى دفاعهم عن «النظام» الذي يمثله ويرأسه. وفي بيئاتهم يسود الاستخفاف به عندما يأمنون عاقبة الحديث. ومن هنا فإن المراهنة المعارِضة المستمرة، والممددة حدثاً بعد حدث، حول تخليهم عنه مراهنة ليست في مكانها. فقد ساد بينهم، منذ عقود ما قبل الثورة، شعورٌ جماعي بأنهم المستهدفون بأي تغيير، وأن ذلك لن يحصل دون عواقب دموية ستطالهم وانتهاكات كبرى سيتعرضون لها تشمل الدماء والأعراض. وبغض النظر عن مدى شرعية هذه المخاوف أو المبالغة فيها فإنها كانت الدافع الأساسي الذي حمل عشرات ألوف الشباب إلى الموت. وفي هذه البنية يلعب بشار الأسد دوراً رمزياً فقط بوصفه محور النظام، إن سقط انهارت التركيبة، أما إمكاناته الشخصية فتتراجع أهميتها الخاصة إلى درجة تكاد تكون غير منظورة على سلم الأولويات والعوامل. إنه هناك، في القصر الجمهوري، بوصفه الحزام الذي يضبط جسداً آيلاً إلى التهالك، وكذلك بوصفه ابن حافظ «المؤسس»، القائد الأسطوري الذي يتحسرون على رحيله كل يوم، موقنين أنه لو كان حياً لكان «حلّها» بطريقة تليق بدهائه وخبرته، سلماً أو حرباً، بدل التورط إلى ما لانهاية في مستنقع الدم والخراب الذي وجدوا أنفسهم موغلين فيه في عهد ابنه، دون أفق للخلاص واستعادة «سوريا الأسد».
أمر آخر تجدر إعادة النظر فيه هو «تحالف الأقليات». فبعد أعوام من ذيوع هذا المصطلح، الذي ربما كان مفيداً ذات يوم، لا يبدو انخراط الأقليات المذهبية في الحرب المستنزِفة والشارخة شيئاً مؤكداً. فما عدا التجنيد الإلزامي الواقعين تحته نتيجة السيطرة المباشرة للنظام على المناطق التي يقيمون فيها، والذي استنكف عنه دروز السويداء على نطاق متزايد كلما أمكنهم ذلك، فإن حماسة شبان الأقليات للبحث في طرق تأجيل الخدمة العسكرية وخطط الهجرة إلى الغرب يبدو أنه الطابع السائد الآن.
تستلزم الانتخابات الحرة ظروفاً سياسية مواتية بالطبع؛ منها حرية الترشح والتصويت ونزاهة العملية
أما السنّة المؤيدون للأسد ففي تحليلهم مفارقة أكبر. إذ إنه من المعروف أن معظمهم انطلق في رفض الثورة من توقعه أصلاً للدرجة المفرطة من الوحشية التي يمكن أن يمارسها النظام. إذ كان من المألوف، في العامين الأولين للثورة، 2011 و2012، أن المتوجسين منها، في دمشق وحلب وأكثر المدن السنّية، دأبوا على الظهور في ثوب الحكيم الذي ينصح متهورين، مبتدئاً حديثه كل مرة بأن التجربة تفيد بأن النظام لن يترك في البلاد حجراً على حجر دون أن يسلّم، وأنه سيستخدم علاقاته الدولية بأحط الوسائل ودون قيود للبقاء في الحكم. ولذلك لا جدوى من مغامرة معروفة النتائج لن تجلب سوى الدمار. كما شاعت عبارة «مو قلنا لكم» في السنوات اللاحقة، كتأكيد للتوقعات على ألسنة هؤلاء الأشخاص أنفسهم. الذين يكونون، في الغالب، من أجيال أكبر من معدل أعمار الثائرين، أو في مواقع اجتماعية واقتصادية أكثر استقراراً وأماناً ودعة، مما يصنفهم في خانة رافضي التغيير الراغبين في المحافظة على أي وضع قائم، والموجودين في كل مجتمع.
تستلزم الانتخابات الحرة ظروفاً سياسية مواتية بالطبع؛ منها حرية الترشح والتصويت ونزاهة العملية، مما هو معروف وبديهيّ ولا يستطيع النظام تأمينه على كل حال. لكن هذه أوضح الاستحقاقات وأسّها. وإن شروطاً أشمل يجب أن تتوافر لتتيح حرية حقيقية في الاختيار دون ظروفٍ قاهرةٍ وتركيباتِ ضرورةٍ ربما تدفع قطاعات واسعة من السكان، ممن يضطرهم واقعهم إلى المشاركة، إلى أن يصوتوا بنعم للمرشح الفعلي الوحيد والأكثر خطراً معاً، الذي قال: أنا أو أحرق البلد…
موقع تلفزيون سوريا ٧ نوفمبر / تشرين الثاني ٢٠٢٠