جسر: متابعات:
عرّض قرار الرئيس الأميركي دونالد ترامب، بسحب القوات الاميركية من سوريا، مئات الاف من المدنيين لشبح العنف والتهجير، واجّج النعرات الإثنية بين المكونين العربي والكردي، في الشمال السوري، كما مهّد الطريق أمام تنظيم “داعش” لاستعادة عافيته وزيادة هجماته.
ودفع ذلك، بـ”الإدارة الذاتية” لإبرام اتفاقية مع النظام السوري، تفادياً لغزو تركي أوسع. وقد تجعل هذه الاتفاقية، بحسب تفاصيلها التي لم يُكشف عنها كاملة بعد، عشرات آلاف السوريين من اصحاب النشاط السياسي ضمن المعارضة او “الادارة الذاتية”، عرضة لبطش الأجهزة الأمنية السورية وقمعها، وقد يُتيح القرار فرصة لإيران للاستحواذ على الثروات الطبيعية شرقي الفرات وتعزيز الطريق البري المنشود بين طهران ودمشق وبيروت.
لا تنحصر تبعات الانسحاب ضمن الحدود السورية، اذ قلّت مصداقية أميركا كحليف عسكري وسياسي على الصعيد الدولي، في لحظة تخليها عن “قوات سوريا الديموقراطية”، التي قدّمت كثيراً من التضحيات، ولعبت دوراً كبيراً في مواجهة تنظيم “داعش” في سوريا.
ارتبط هذا القرار بالعلاقة الودية التي تسود بين ترامب، والرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إذ أعلن البيت الأبيض سحب القوات الأميركية بعد مكالمة هاتفية بين الرئيسين، وليس من المستبعد ارتباطه أيضا بمصالح الرئيس الأميركي التجارية في تركيا، مثل أبراج ترامب في اسطنبول، ولكن الدافع الأهم لقرار الانسحاب هو سياسي أميركي داخلي بامتياز.
منذ اندلاع الحرب في سوريا، وترامب يقف ضد اي تدخل اميركي في البلد “حفاظاً على الارواح والأموال الاميركية، وهذا الموقف جزء من سياسته الخارجية التي سُميت، بعد ترشحه للرئاسة؛ “أميركا اولاً”. تدعو هذه السياسة الشعبوية الى العزلة، أو بالأحرى تقليل التواجد الأميركي العسكري حول العالم، وتخفيف المساهمة المالية في التحالفات مثل “ناتو”، وتكليف الدول الحليفة بأخذ جزء أكبر من النشاط والإنفاق العسكري الغربي على عاتقها.
حاضنة ترامب الشعبية، التي أوصلته إلى الرئاسة في انتخابات 2016، تعتنق سياسة “اميركا اولا” وتؤيدها. بقراره الأخير، يريد ترامب تسجيل نجاح قوي في عين حاضنته الشعبية قبل الانتخابات الرئاسية سنة 2020، من خلال القضاء المزعوم على تنظيم “داعش” وإعادة الجنود الاميركان الى وطنهم سالمين، لعله يحظى بدعم قوي من مؤيديه مرة ثانية.
اميركا اولا
“تم انتخابي من أجل الخروج من هذه الحروب التافهة بلا نهاية”، هذا ما قاله ترامب تبريراً للانسحاب من الحدود السورية الشمالية في تغريدة، الاثنين، وأضاف الأربعاء: “أنفقت الولايات المتحدة ثمانية تريليونات دولار للقتال ولعب دور الشرطة في الشرق الأوسط. آلاف من جنودنا العظماء قتلوا أو أصيبوا بجروح حرجة، فيما قتل ملايين الأشخاص في الطرف الآخر”.
تعبّر هذه التغريدات بشكل واضح عن سياسة “اميركا اولا”، التي تتحاشى التدخل العسكري إلا في حالات تخدم مصالح الولايات المتحدة بشكل مباشر، بسبب كلفة تلك التدخلات بشريا وماليا. وتستند هذه الرؤية الى تجربتي العراق وأفغانستان اللتين كبّدتا أميركا خسائر كبيرة دون تحقيق أهداف واضحة، بالاضافة الى قتل مئات آلاف من المدنيين العراقيين والافغان.
تتناقض مبادئ “اميركا اولا”، مع رؤية غالبية السياسيين المنتمين الى الحزب الجمهوري، أي حزب ترامب الذي يشكل نصف المعادلة السياسية الأميركية، والحزب الديموقراطي النصف الآخر. تفضل السياسة الجمهورية التقليدية استخدام القوة العسكرية بدون تردد كبير من أجل حماية مصالح أميركا وحلفائها، حتى مصالح من الدرجة الثانية أو الثالثة، تحت شعار نشر الحرية والديموقراطية ومحاربة الإرهاب.
تختلف سياسة “أميركا أولا”، مع السياسة الجمهورية التقليدية في نقاط اخرى كثيرة داخلياً وخارجياً، كما تتلاقى في نقاط مهمة؛ للان لم يمنع هذا الاختلاف تكاتف الحزب الجمهوري مع رئيسه من أجل كسب أصوات حاضنة ترامب الشعبية، المسجلة جمهوريا والمشكلّة قوة انتخابية لا يستهان بها.
وعلى الرغم من تقيّد ترامب في بداية ولايته بنصائح وزرائه ومستشاريه على الصعيد الخارجي، الذين يتبعون السياسة الجمهورية التقليدية، فانه انتقل تدريجيا من مرحلة الانصياع، إلى المرحلة الحالية المتصفة بإطلاق غريزته السياسية وتطبيق أكثر جدية لسياسة “اميركا اولا” المائلة إلى العزلة. ونرى هذا التحول واضحا في صعود المذيع تَكْر كارلْسُن، في حاشية الرئيس.
المذيع يصير مستشارا
يعمل تكر كارلسن، المروّج لأفكار “اميركا اولا”، مذيعا في قناة فوكس نيوز الجمهورية. في إحدى حلقات برنامج “تكر كارلسن الليلة”، في شباط/فبراير، قال المذيع: “ترشح دونالد ترامب للرئاسة واعداً الشعب بسحب الأميركان من الحروب الخارجية بلا جدوى، والمصوتين يحبون ذلك”.
يعتبر كارلسن، التدخل الأميركي في سوريا من هذه الحروب الخارجية عديمة الجدوى. في الحلقة ذاتها، استنكر بقاء حتى قوة أميركية مصغّرة في سوريا، قائلا “سبب بقاءها لم يكن واضحا أبدا، مهمتها المعلنة هي حماية الشعب الكردي، الذي علينا حمايتهم الان، لسبب ما، من تركيا حليفتنا في ناتو، العالم غريب”.
وإذا كان ترامب من متابعين كارسن منذ توليه الرئاسة، حين غرّد الرئيس 20 مرة تعليقاً على برنامج “تكر كارلسن الليلة” منذ ذلك الوقت، فإنه تبنى المذيعَ كمستشار له اخيراً. كارلسن رافق ترامب في زيارته التاريخية الى كوريا الشمالية الصيف الماضي، ونشرت صحف أميركية موثوقة أن كارلسن هو من أقنع ترامب بعدم الرد على ايران عسكرياً بعد اسقاط الدرون الأميركية في مضيق هرمز، في حزيران/يونيو.
بالاضافة الى صعود كارلسن، نرى نية ترامب في تطبيق سياسة “اميركا اولاً” قبل انتخابات 2020 من خلال فصل مجموعة من الوزراء والمستشارين واحد تلو الآخر الذين مثلوا الرؤية الجمهورية التقليدية، وبينهم ه.ر.ماكماستر وجون بولتون، مستشاري الأمن القومي السابقين اللذين دعما تواجداً اميركيا مستمرا في سوريا من أجل محاربة إيران وتنظيم “داعش”، وجيمس ماتيس، وزير الدفاع السابق الذي استقال نهاية السنة الماضية، احتجاجاً على إعلان ترامب المفاجئ سحب القوات الأميركية من سوريا وقتها.
امتصاص المعارضة عبر فرض العقوبات
يواجه قرار الانسحاب من سوريا معارضة شديدة من المؤسسة العسكرية الأميركية، التي تشعر بالولاء تجاه “قوات سوريا الديموقراطية” بقيادتها الكردية، وكذلك معارضة أعضاء الكونغرس من الحزبين الجمهوري والديموقراطي، اللذين لا يتفقان على شيء إلا في حالات استثنائية.
تستند هذه المعارضة إلى أن تخلي أميركا عن “قسد”، الذي يعود إليه الفضل الأول في القضاء على “داعش”، هو عار وطني يسوّد سمعة الولايات المتحدة كحليف عسكري وسياسي، ولأن القرار سيعود بالنفع على كل من “داعش” والنظام السوري وإيران وروسيا.
تحمل المعارضة الجمهورية لقرار الانسحاب خطراً على ترامب، بسبب حاجته إلى دعم سياسي في ظل فتح تحقيق من قبل خصومه الديموقراطيين يهدف الى عزله (حتى اللحظة لم يعلن أي عضو جمهوري في الكونغرس تأييده عزل الرئيس). وبرغم العداوة الشديدة التي يبديها الديموقراطيون تجاه ترامب، إذ دعت مؤخراً عضوة في مجلس النواب إلى حبسه في زنزانة انفرادية، فإنه يبقى محمياً ما دام حزبه يقف معه، لأن عملية العزل تتطلب مصادقة 66 عضو من أصل 100 في مجلس الشيوخ الذي يسيطر عليه الجمهوريون حالياً.
ومن اللافت جدا أن عضوين جمهوريين في مجلس الشيوخ، ممن سيعتمد عليهما ترامب للدفاع عنه خلال تحقيق العزل، وهما ليندسي غراهام وماركو روبيو، عارضا الانسحاب من سوريا بشكل قوي وصريح، إذ وصف غراهام القرار بأنه “طائش وعديم المسؤولية،” وقال ان ما يجري في سوريا حاليا “تطهير عرقي” بحق الاكراد.
ويبدو أن ترامب قد تأثر بمعارضة حلفائه السياسيين لقراره، إذ أعلن الأحد انه “يناقش ليندسي غراهام والكثير من أعضاء الكونغرس، بمن فيهم ديموقراطيون، بخصوص فرض عقوبات قوية على تركيا”. بدوره أشاد غراهام، بتعاون الرئيس في هذا المجال، ما يشير الى امتصاص ترامب معارضة حلفاءه الجمهوريين من خلال خيار العقوبات، وبالتالي تملّصه من تبعات سياسية مباشرة نتيجة قراره. ولكن هذه التبعات قد تلحقه في حال استغلال تنظيم “داعش” وايران الفراغ الأميركي لتعزيز موقفهم والتمدد، ما سيزوّد خصوم ترامب الانتخابيين بذخيرة من العيار الثقيل.
قرار الانسحاب الأميركي من سوريا، خلط الأوراق وأدخل الفوضى في منطقة شرق الفرات، التي كانت من أكثر المناطق في سوريا استقراراً. وكما هو الحال، في الكثير من بلدان العالم، اعتمد هذا القرار المصيري على حسابات سياسية داخلية تخدم مصالح شخصية ضيقة.