موفق نيربية
مع تراكم السحب في المنطقة، في سماء لبنان والعراق خصوصاً، يرجو السوريون أن تكون مطيرةً تعود بالخير، لعله ينعكس عليهم خيراً، بالأمان والسلم والحل السياسي الذي ينهي عقود الاستبداد والنهب، ويضعهم على طريق مستقبل داخل العالم المعاصر. فلطالما اعتاد السوريون على التعلق بالآمال والنظر في السياسة الدولية بحثاً عما يساعدهم على أحلام اليقظة، بل قد تفاءلوا مؤخراً بسقوط موراليس في أقصى الأرض، في بوليفيا.
في أواخر عام 2011، كان عدد سكان محافظة إدلب قريباً جداً من المليون ونصف المليون. وتضاعف هذا العدد على الأقل منذ ذلك الوقت، بنزوحٍ طوعي أو قسري من غوطة دمشق وحمص وشمال حماة والرقة وغيرها، حين أصرّ الأسد والروس على تخصيص تلك المحافظة كخيار ثانٍ لكلّ من يرفض التسوية مع النظام. هؤلاء جميعاً عرضة منذ فترةٍ لخطر المجازر تحت القصف الأعمى أو الدفع في البراري بالاتجاه الذي ينفتح أمامهم.
يقول الأسد والروس إن مسألة إنهاء خروج إدلب عن طاعتهم ما هي إلا مسألة وقت، ويكررون ذلك كلّ أسبوع، فيطبع ذلك سمات الجحيم والرعب على تلك الجموع المكدسة، والذين هم في غالبيتهم الساحقة مدنيون لا حول لهم، تأسرهم تلك القوى المقاتلة بنواتها التي نشأت في أحضان “القاعدة” وقواعدها. تلك القوى هي السندان الذي يمكن أن تنطحن جموع مدنية عليه تحت ضرب الطيران الروسي والأسدي، وزحف الميليشيات العاملة على الأرض.
وحول ما اتفق عليه بوتين وإردوغان في مباحثاتهما لتسوية وضع الشمال الشرقي بعد الاتفاق الأميركي التركي، ينقل بعض الباحثين الأميركيين حدسهم بأن هنالك بنوداً غير معلنة، تتوزع من خلالها الأرباح الحرام، فتعطي إدلب للأسد، وتبقي شيئاً للكرد في المنطقة المعنية، وتأخذ تركيا منطقتها الآمنة، ويبقى لروسيا يدها العليا في المنطقة عموماً.
غونول تول باحث آخر في مؤسسة أخرى، يقول إن احتلال الأراضي من قبل إردوغان قدم لبوتين فرصة عصر التنازلات من تركيا، داعم المعارضة، التي ستكون تلك التنازلات على حسابها وحساب قضيتها بالطبع. ويشبه ذلك ما تقوله دارين خليفة من مجموعة الأزمات الدولية أيضاً “كلما يحدث شيء من جهة تركيا، تقوم روسيا والنظام بتذكيرها بواجبها في إدلب”. وواجبها ذاك يتعلق بالطبع بما التزمت به من حل لمسألة وجود “الإرهابيين”، والذي تلكأت به تركيا لأسباب متناقضة، منها العجز ربما، أو القلق من الارتدادات اللاحقة الكريهة بالنسبة إليها، بما في ذلك الخوف من التخلص مما يمكن أن يكون “درعاً” يقيها في بعض الحالات، ويبقي في يدها أوراقاً تحتاج إليها في خدمة برنامجها الطاغي المتعلق بأمنها القومي وأولوية الحدّ من الخطر الكردي على حدودها أو في داخلها أيضاً.
ليس سهلاً قول هذا، بل ما يفعله بعضنا في مواجهة تلك الأسئلة الحارة، حين يستخلص أسباباً من تحت الأظافر تطمئن الناس في إدلب وتبعد عنهم شبح الموت والبؤس والتشرد المجهول الاتجاه. ولكن هنالك ما يعيد ذلك الشبح إلى قوة تأثيره بين أسبوعٍ وآخر، في ظل انفراد القوى المهيمنة، وملل القوى الأكبر منها من “أرض الدماء والرمال”، التي ليس فيها مطمعة ولا منفعة.
فنظام الأسد يزداداً ضعفاً يوماً بعد يوم، وتزداد كذلك مظاهر الاستغناء عنه حتى من قبل أقرب داعميه، ولا تنفع معه كلّ الأخبار عن “الانتصار” و”إعادة الإعمار” والنفخ في الرماد أو القرب المثقوبة. وهو يحتاج بين فترة وأخرى إلى صوت النفير والتهويل بالانتهاء من تحرير إدلب على هواه، فيقوم بغارات تودي بحياة مدنيين، وتزرع الرعب باستهدافها للأهداف الطبية والصحية والمعيشية. يحدث هذا أيضاً مع حاجة الروس إلى إعادة التذكير بقيادتهم، وحاجتهم إلى الإمساك بالعنان كلما اهتز مركزهم أمام الأميركيين والأوروبيين. في الوقت ذاته، أظهرت صورة الأسد في مقابلاته الأخيرة مع أجهزة إعلام روسية تهافت حالته، كما ظهر أيضاً تناقض موقف الروس منه في تعارض المقابلات وحبكتها. وتتابع الليرة السورية تراجع قيمتها، مما يعزز الإحساس بخطر المزيد من الانهيار المعيشي والاجتماعي، طالما استمر النظام حياً وسائداً.
في نظر الكثيرين، وبينهم سوريون، تستحق إدلب ما يجري، وما سيجري، طبعاً مع بعض الأسف للضحايا الأبرياء كثيراً. في رأيهم أنه لولا تركيبتها المحافظة الإسلامية، وترحيبها بالمتأسلمين جميعاً من الإخوان المسلمين إلى “القاعدة” وباقي الجهاديين، لما صار ما صار. وحين يتم حصر وتعداد القوى التي تدور أفكارها حول فكر القاعدة، يُقال إنها تعدّ عشرات الألوف بين سوري وغريب، و تبدو مدعومة بقوةٍ ما إقليمياً، أو من قبل أشباح وأيديولوجيات خانقة، بحيث تنغلق الأبواب على أي مخرج آمن وصحيح ومعاصر. ولا يفتح ثغرةً مضيئة في الجدار الأسود إلا غضب الأهالي بيأس وشجاعة مستحيلة على تلك القوى السوداء، ومظاهراتهم بين حين وآخر. ولا ترف جفون تلك القوى، ولا تتراجع عن عنادها لتلاقي المأزق بانفتاح على الحلول، بل تصرّ على خلق مقومات الكارثة، وعلى البحث عن نجاحات باتجاه تأسيس الأمارة الإسلامية أو الاقتراب منها. ويبقى أن ثورة المدنيين على المقاتلين هناك هي المخرج الأكثر نجاعة لتلك الأزمة المستعصية، حتى تتشكل ظروف أخرى.
إضافةً إلى ذلك، ما زالت الآمال معقودة على القلق التركي المؤكد من تدفق اللاجئين بموجات هائلة باتجاه الحدود مع أي تطور دراماتيكي كبير. ذلك القلق يمكن أن تزيل آلامه أو تخفف منها احتمالات آلام أو مخاطر أخرى، أو خلل في الميزان ما بين المؤتلفين. ولعل ذهاب أردوغان مع الروس بعيداً في التفاهم والترابط، يمكن أن يختل بتأثير الروابط الراسخة مع الطرف الآخر، الأميركي خصوصاً. ولم تتراجع حظوظ هذا الطرف إلى حدود حاسمة، بل أظهرت أقوال ترامب وإردوغان في خلال زيارة الأخير لواشنطن منذ أيام، أن تفاهماً منافساً قد يكون أعمق وأكبر، ربما يكون قادماً على الطريق.
لا يمكن في الحقيقة لأي شيء من هذا أن يطمئن “الأدالبة” كما يُطلق عليهم في بلادنا، ولا يقلص من قلقهم ذاك إلا استمرار حراكهم وتطويره إلى آفاق أكثر تنظيماً، وبرؤية جذرية وديناميكية، وإلا عودة المعادلة الإقليمية والدولية إلى مسار أكثر اعتدالاً وتوازناً وعقلانية، وإلا- كذلك، وربما- عودة السوريين إلى الفعل وبناء وحدتهم وتنظيمها سياسياً، لإجبار العالم على احترام هذا البلد وآلامه وآماله.
المدن