أفضل تعبير عن تلك الانتخابات المزعومة أتت به تسجيلات يظهر فيها شبيحة إحدى العشائر محتفلين باختيار زعيمهم ومطلقين كمية ضخمة من الرصاص، رغم قناعتهم المسبقة بفوزه. هذا واحد من النواب الذين يحظون بالتجديد لمؤهلات لم تتغير الحاجة لها قبل الثورة وبعدها، فهو تاجر مخدرات معروف، وهو تالياً زعيم عصابة مسلحة “ذات عصب عشائري” يمكن استخدامها في شتى أنواع الإجرام، ثم استخدامها ضد الثائرين كما حدث فعلاً. هو شريك العصابة، إن على صعيد تجارته العابرة للحدود، أو على صعيد عصابته الصغيرة المنسجمة مع التنظيم الأكبر للعصابات. أمثال هذا الشخص يفهمون النيابة على حقيقتها، بلا أوهام عن دور تشريعي او شرعية تمثيلية، والانتخابات ليست سوى موسم تظهر فيه العصابة الأكبر ما تفضله من بين بضاعتها نفسها.
بعد انقضاض انقلاب البعث على إرث محترم من الحياة البرلمانية، استلهم حافظ الأسد إثر انقلابه على زملائه التجربة المصرية المسماة أيضاً “مجلس الشعب”، وقد يكون من دوافعه آنذاك التظاهر بوجود مؤسسات حكم متعددة، رغم تفصيله دستوراً على مقاس استبداده الناشئ، بما في ذلك السطو “دستورياً” على معظم الصلاحيات المعهودة للبرلمانات، مثل إعطاء الرئيس صلاحية التشريع وصلاحية رفض التشريعات التي يقرها المجلس. إجمالاً ليس للمجلس صلاحيات لها طابع إلزامي، فضلاً عن خرق مبدأ فصل السلطات وتهميش التشريعية والقضائية لحساب رأس الاستبداد وهرم مخابراته وجيشه.
إذاً، منذ إنشائه كان مجلس الشعب خارج أي تعبير ديموقراطي، وكانت قائمة الجبهة الوطنية التي تضم البعثيين وشركاءهم فائزة سلفاً، ثم عندما تُركت بعض المقاعد للمستقلين كان يفوز منهم مَن تقرر السلطة فوزه. في حقبة التقشف الذي فرضه الأسد حتى بداية التسعينات، كان المحظوظ بالوصول إلى المجلس يحصل على رخصة إدخال سيارة حديثة والاكتتاب على شقة سكنية، وكانت درجات الطامحين تتراوح بين المكتفين بهذا الحد وأولئك الطامعين في مشاركة أكبر في كعكة الفساد الحكومي. على هذا المستوى الواضح المبتذل كانت تأتي سيرة “انتخابات” المجلس، ومن دون اكتراث بتلك الآلة الإعلامية التي تحتفي كعادتها بما تسميه عرساً ديموقراطياً، وهذه بالطبع حفاوة من باب الشكليات ولا تُقارن بالحفاوة بالعرس الديموقراطي الأكبر، أو ما بات يُسمى تجديد البيعة للقائد في إبعاد نهائي لشبهة الانتخاب.
لا تنفرد سلطة الأسد بهذا النوع من مزاعم وجود مؤسسات دولة، ولا حتى بوجود نتائج مسبقة لانتخابات صورية، ويعلم ذلك من يذهب إلى الاقتراع ومن لا يذهب، ومن هو موالٍ للسلطة ومن يعارضها. لكن ربما تنفرد الأسدية في نسبة وأساليب إكراه السوريين على أداء دورهم في المسرحية، فالنسبة الأكبر تُساق إلى الاقتراع إما بالمعنى المباشر الفظ، أو تحت الترهيب. مرة أخرى، الممتنعون عن الذهاب إلى الاقتراع قد لا يفعلون ذلك بداعي المعارضة أو الاحتجاج، وربما يقتصر “تقاعسهم” عن الذهاب على معرفتهم بأن ذهابهم لا يقدم ولا يؤخر، وهذا يحمل من الاطمئنان إلى رسوخ السلطة التي يوالونها بقدر ما يحتمل مهانة استهتارها بأصواتهم أو إجبارهم على الإدلاء بها.
من الطريف أن يأتي الطعن بنزاهة “الانتخابات” الأخيرة من قبل مرشحين معروفين بموالاتهم، ووجه العتب لدى البعض منهم أن السلطة فضّلت عليهم من هم أقل استحقاقاً وجدارة وأقل حصولاً على الأصوات لولا عمليات التزوير. إلى هذا التظلم تنضم تمنيات ليست بالجديدة على الموالين، يتلخص فحواها بأن تختار سلطة الأسد الأقل سوءاً من ضمن بضاعتها، أو على الأقل ألا تضع في واجهتها أشخاصاً على درجة مفضوحة من الابتذال، وهذا خيار تملكه من دون أن يمس إطلاقاً شيئاً من هيبتها. بل ربما كان هذا التمني يجمع طيفاً واسعاً من السوريين قبل الثورة، فبما أن التغيير غير وارد كان مؤملاً من السلطة نفسها أن تختار “من أجل نفسها أيضاً” الأقل سوءاً، ولطالما صدرت مثل هذه الأمنيات عن معارضين ظهروا أكثر إدراكاً لمصلحة السلطة مما تفعل هي!
نعم، نظرياً تستطيع سلطة الأسد إخراج مسرحيتها بحبكة أفضل، ولا تعجز عن اختيار موالين بشدة أقل سوءاً وركاكة ممن تختارهم. لكن فعل ذلك لا يتعارض فقط مع بنيتها المبتذلة، إنه يتعارض أولاً مع الوظيفة التي تريدها من مسرحية الانتخابات، وهي بالضبط التعامل معها كموسم للتنكيل بالديموقراطية، وكلما أتى التنكيل صريحاً ومبتذلاً أدى الغاية المطلوبة منه. فوق أنه مؤسسة صورية أصلاً، ليس أفضل من إيصال الركاكة والرثاثة إلى مقاعده للتنكيل بما يسمى مجلس الشعب وما يُفترض أن يرمز إليه. لقد فعلت سلطة الأسد ذلك بمؤسسة الجيش أيضاً، عندما أصبح اسمه الشائع دلالة على الرثاثة “جيش أبو شحاطة”، بينما كانت تنشئ ميليشياتها العسكرية الخارجة عن المؤسسة.
ثمة عداء مزدوج لفكرة المؤسسة وللديموقراطية بالطبع، ذلك ما يُعبَّر عنه دائماً، وينبغي التعبير عنه بإظهار المزيد من الاحتقار لهما، وهكذا لا تكون مناسبة “انتخابات” مجلس الشعب إلا مناسبة لتحقير مفهوم الانتخابات والمجلس “المنتخب” والشعب طبعاً. من لوازم التنكيل وتعميمه أن السلطة قادرة على إعلان الفائزين وعلى إعلان نسبة المشاركة في الاقتراع كما تشاء، فيأتي إجبارها الناس على الاقتراع بأصوات يعرفون أنها لا تغير في النتائج فقط من أجل إهانتهم وتذكيرهم بأن أصواتهم لا قيمة لها، وأنهم ليسوا أحراراً في الإدلاء بها أو الامتناع عنه. إذا كان هناك ما يميز موسم التنكيل الأخير فهو إجراء العرض، وإكراه الناس على المشاركة فيه في ظروف هي الأسوأ، لجهة إفقارهم ولجهة الوباء الذي يتفشى بسرعة وصار يُخشى أن ينافس الأسدية.
المصدر: المدن السبت 25 تموز 2020