تعقد “قوات سوريا الديموقراطية”، الجمعة، مؤتمراً في بلدة عين عيسى بريف الرقة، دعت إليه أكثر من 8 آلاف شيخ من وجهاء عشائر الرقة وديرالزور والحسكة ومنبج. وترمي “قسد” إلى استقطاب تلك القبائل العربية، التي تشكل نحو 80% من سكان شرقي الفرات، لإضفاء الشرعية الاجتماعية على سلطتها المستمدة اساساً من الدعم الأميركي اللامحدود. ويبدو أن “قسد” تطمح من خلال تجميع أولئك الشيوخ، بهذه الطريقة، إلى انتزاع ورقة تمثيلهم في أي مفاوضات محتملة مقبلة.
وكان النظام قد عقد في شباط/فبراير مؤتمراً مماثلاً في بلدة اثريا، بغرض استمالة العشائر أيضاً التي تسكن الجزيرة السورية، المصدر الأهم للنفط السوري. وكما منعت “قسد” شيوخ عشائر داخل مناطق سيطرتها من حضور اجتماع اثريا، أوعز النظام للقبائل المقربة منه بعدم حضور مؤتمر عين عيسى. رئيس فرع “أمن الدولة” في القامشلي العميد مهنا محمود، حذر العشائر من حضور الاجتماع “الانفصالي”، واستجابت له قبيلة طي، كبرى قبائل الحسكة، عبر بيان مرئي اذاعه شيوخها، اعتبر من سيشارك في الاجتماع “خائناً”.
وكانت مناطق القبائل شرقي الفرات، قد شهدت الأسبوع الماضي احتجاجات واسعة ضد “قسد”، ونفوذ حزب “العمال الكردستاني” و”كوادر قنديل”. وتعمل “قسد” على تلافي تجدد تلك الاحتجاجات، عبر الاجتماع بوجهاء القبائل، وضخ نحو 105 مليون ليرة بشكل عاجل كدعم للمجالس المحلية في البلدات التي شهدت احتجاجات على سوء الإدارة.
صراع إقليمي
تتنازع تركيا وإيران، هذه الكتلة البشرية غير الممثلة سياسياً. فقد جندت ايران أبناء القبائل في ميلشيات تابعة لها، وأبرزها “لواء الباقر” المكون من أبناء قبيلة البكارة، وترعى عدداً من شيوخ العشائر، ويقال إنها تهيمن عليهم عبر القاطرجي الممول ايرانياً، والذي وظف عدداً كبيراً من أبناء عشائر الرقة وشيوخها لديه.
ومنذ أن بدأت نشاطات القاطرجي بالاتساع، في العام 2013، بدأ بتجنيد حراس لحماية قوافله “ترفيق” باسم “قوات القاطرجي”، من أبناء عشائر شمال شرقي سوريا. وأُعلِنَ عن تأسيس تلك القوات في منزل أحد شيوخ قبيلة العفادلة، واشتركت في المعارك إلى جانب النظام في ريفي حمص وحماة، وغوطة دمشق وديرالزور وريف حلب الجنوبي. وزجّ بها إلى جانب “وحدات الحماية” الكردية في معركة عفرين بمواجهة الجيش التركي وفصائل المعارضة نهاية العام 2017.
مساعي طهران باختراق الكتلة القبلية في الجزيرة السورية وتجنيدها، يسهلها تردي أوضاع تلك الفئة على كافة الصعد، ويفسح الطريق لكل أنواع الاستقطاب بما فيها الديني عبر بث التشيّع، مروراً بالتجنيد في مليشيات إيرانية، وحماية الطريق من العراق إلى سوريا وصولاً إلى البحر المتوسط.
تركيا بدورها، جنّدت أعداداً كبيرة من أبناء القبائل الهاربين من بطش النظام و”داعش” سابقاً، في قوات “درع الفرات” و”غصن الزيتون”، وأهمها فصيل “أحرار الشرقية” المكون بمعظمه أيضاً من أبناء قبيلة البكارة، إضافة إلى فصائل عشائرية أخرى مثل “جيش الشرقية”. كما تشكل بجهود حثيثة من رئيس “الحكومة المؤقتة” الأسبق أحمد طعمة، “مجلس القبائل والعشائر” الذي يضم معظم شيوخ القبائل القاطنين في تركيا والمناوئين لـ”قسد” ولنظام الأسد معاً. ومنحت تركيا الجنسية لعدد منهم ولأبناء قبائلهم، وتفكر باستخدامهم في أية معركة، سواء ضد وجود “العمال الكردستاني” في الشمال، أو في صراعاتها الجيوسياسية مع ايران والنظام.
رفض القبائل
المنطقة القبلية الأكثر وضوحاً وهي ديرالزور، شهدت احتجاجات رفعت فيها شعارات مناوئة لـ”قسد” ورافضة بحدة لنظام الأسد الذي خاضت تلك القبائل معه قتالاً شرساً جداً في السنوات الأولى من الثورة السورية. ويبدو أنها أيضاً غير قابلة للتجنيد لصالح ايران بسبب التناقض الديني المذهبي سني/شيعي، كما أنها غير منسجمة مع معركة تركيا ضد الأكراد، التي ينظر إليها من منظور تلك المجتمعات كمعركة ثانوية. فأولوية تلك المنطقة هي النظام والميلشيات الإيرانية، أما الوجود الكردي المتعايش معه تاريخياً فهو بنظرهم لا يشكل تهديداً وجودياً حالاً.
سادة النزاع
في خلفية المشهد ثمّة قوتان غير منظورتين، لكنها في الواقع قطبا الصراع الأكثر أهمية؛ “داعش” والولايات المتحدة. ويحاول الروس ونظام الأسد والايرانيون إعادة “داعش” إلى الحياة بطريقة ما ودفعه مجدداً إلى شرق الفرات، الذي تجثم عليه الولايات المتحدة.
وتتمتع “داعش” بالقدرة على اختراق الشبكات القبلية، ولديها خبرة واسعة في التعامل معها، سواء في الشرق السوري أو الغرب العراقي، وهي تعرف موضع الفراغ السياسي في تلك المنطقة، وتسعى إلى ملئه بالقوة، في محاولة لانتزاع تمثيل “العرب السنة” الذين يفتقدون إلى التنظيم والرمز السياسي في مناطق العشائر العربية.
واشنطن بدورها، لديها خبرة واسعة بهذه الخلطة الخاصة، منذ احتلالها للعراق مطلع الألفية الثانية، وتعلم جيداً أن القبائل هي الترياق الوحيد القادر على مواجهة تمدد وانتشار الجهاديين في المنطقة، بوصفهم في آن معاً: الخزان الاستراتيجي لتلك التنظيمات بشرية، والعدو الحيوي لها على الصعيد الاجتماعي. وبينما نجحت المخابرات الاميركية في ابتداع شكل لتنظيم التحالف مع القبليين في العراق ضد الجهاديين في العراق، عبر ما يعرف بالصحوات، ما تزال عاجزة عن إيجاد “شكل” لتنظيم اجتماعي عسكري في تلك المناطق، يدعم سياستها، خاصة في صراعها الاستراتيجي مع ايران وروسيا.
ما الحل؟
لن تستقر الاوضاع شرقي الفرات سوى بإيجاد حلّ للقضية السورية برمتها. ومع ذلك، يمكن أن يتحقق نوع من الاستقرار المرحلي فيها فيما لو منح المكون العربي واسع الانتشار، جزءاً من السلطة المستقلة، التي يمكن تأليفها عبر الانتخابات، أو من خلال المرجعيات العشائرية الواضحة وسهلة القراءة. وهو ما يعرفه الاميركيون جيداً، وهم أصحاب القرار فيه، لكن حليفتهم الأكثر قرباً؛ “قسد” المهيمن عليها كردياً، تقاومه بشدة، وتصطنع بين الفترة والأخرى “واجهة” واهية لحشر العرب وراءها، والقول إنهم يقبلون طواعية بالخضوع لسلطتها. بل وأنهم، أي العرب، اصبحوا من الاتباع الخلص لفكر وفلسفة عبدالله أوجلان، وهو ما يجافي الواقع على نحو يثير الضحك. الإصرار على ذلك الادعاء، ونكران المعطيات الديمغرافية الجلية للعيان، قد يقلب قريباً ذلك الضحك دموعاً.
المصدر: صحيفة المدن الجمعة ٣ ايار ٢٠١٩