جسر:مقالات:
تصاعد الاشتباك العسكري بين أذربيجان وأرمينيا بشكل سريع ومخيف أول أمس بعد أن قامت أرمينيا بقصف بعض المواقع المدنية الأذربيجانية مما أدى إلى سقوط عدد من القتلى المدنيين وخسائر مادّية جسيمة في ظل الصراع القائم بين البلدين على إقليم “ناغورني قره باغ” الذي تسيطر عليه أرمينيا منذ العام ١٩٩٢. وتحتل أرمينيا منذ ذلك العام نحو ٢٠٪ من الأراضي الأذربيجانية بعد حرب أدت إلى تهجير مئات الآلاف وإلى مقتل حوالي ٣٠ ألف إنسان. في العام ١٩٩٤، توصّل البلدان إلى وقف لإطلاق النار، إلا أنّ ذلك لم يحُل دون اندلاع اشتباكات بينهما بين الحين والآخر. وبالرغم من أنّ المجتمع الدولي يعترف أنّ أرمينيا دولة محتلة لأراضي أذربيجان، إلا أنّ يريفان تتمتّع بشبه حصانة في اعتداءاتها على باكو بسبب الدعم الروسي.
ردّت أذربيجان على الهجوم الأرمني يوم الأحد الماضي بهجوم معاكس على أكثر من محور، تبع ذلك الإعلان عن حالة الطوارئ (الأحكام العرفية) والتعبئة العامة للحرب في البلدين، وتصاعدت الاشتباكات بينهما على خط الجبهة بشكل غير مسبوق منذ سنوات طويلة. وفقاً للجيش الأذربيجاني، فقد تمّ تحرير قمّة “موروفداغ” وعدّة قرى من الاحتلال الأرمني، ونشرت وزارة الدفاع الأذربيجانية مقاطع فيديو تُظهر استهداف مُسيّرات تابعة لها مواقع وتحصينات ومدرعات ومنظومات دفاعية روسية الصنع تعود إلى أرمينيا وتدميرها بشكل كامل بعد أن نشرت أرمينيا فيديو يُظهر استهداف دبابة أذربيجانية.
تسارع العمليات العسكرية دفع عدداً كبيراً من الدول المعنيّة بالصراع مباشرة إلى الإعلان عن مواقفها. تركيا كانت أوّل من عبّر عن إدانته للاعتداءات الأرمنيّة مُعربةً عن تضامنها مع أذربيجان وعن استعدادها الكامل لوضع مُقدّراتها وخُبراتها في خدمة باكو. التضامن الواسع مع أذربيجان في تركيا شمل كل المستويات السياسية والدفاعية والإعلامية والشعبية. في المقابل، دعت روسيا الطرفين إلى وقف العمليات العسكرية فوراً في وقت أشارت فيه المعلومات المُستقاة من المصادر المفتوحة إلى أنّ طائرة الشحن العسكرية الروسية العملاقة أنتونوف كانت قد حطّت في أرمينيا مساء اليوم الذي سبق الاشتباكات بين الطرفين.
أمّا إيران، فقد أعلن وزير خارجيتها محمد جواد ظريف عن استعداد بلاده لتقديم خدمة الوساطة بين الطرفين، في الوقت الذي كانت فيه مواقع أذربيجانية قد كشفت عن قيام طهران بتسهيل وصول شحنات من الأسلحة الروسية إلى أرمينيا في وقت سابق من هذا الشهر عبر معبر نوردوز، الأمر الذي نفته إيران.
الموقف الرسمي الإيراني تقليدياً داعم لأرمينيا، وهو يأخذ بعين الاعتبار عدّة محددّات لاسيما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي حيث بدأت هذه المنطقة من جنوب القوقاز تحظى باهتمام العديد من الدول من بينها تركيا وروسيا. يدّعي البعض أنّ وقوف طهران إلى جانب أرمينيا ضد أذربيجان هو دليل على عدم إتّباع إيران سياسة طائفية في المنطقة، لكن إلى أي مدى مثل هذا الادّعاء صحيح؟
في حقيقة الأمر، لا يُعرّف الأذربيجانيون في جمهورية أذربيجان أنفسهم من باب الهوية الطائفية، فالدولة علمانية كما أنّ مواطنيها من الشيعة لم يتبنوا الهوية الطائفية لتعريف أنفسهم. ينتمي مواطنو
جمهورية أذربيجان إلى الإثنيّة التركية، ولأنّ معظم الدول التي نشأت حديثاً إثر الحرب العالمية الأولى والثانية تمّ تشكيلها على أساس قومي وليس ديني، فإنّ القوميّة تسمو على غيرها من العناصر. ومن هذا المنطلق، يُعرّف الأذربيجانيون أنفسهم من باب الهوية القومية التركية وليس الطائفية الشيعية، ولذلك فهم أقرب إلى تركيا منه إلى إيران.
الإيرانيون لا ينظرون كذلك إلى المواطنين في جمهورية أذربيجان على أنّهم شيعة موالون لأهل البيت بنفس الطريقة التي ينظرون إليها على سبيل المثال إلى بعض الشيعة الموالين لهم في لبنان والعراق والبحرين، والكويت..الخ، علماً أنّ النفوذ الإيراني في تحريك الهوية الطائفية لدى المواطنين الأذربيجانيين كان قد بدأ يزداد في العقدين الأخيرين.
علاوةً على ذلك، فإنّ تبنّي أذربيجان النموذج العلماني-القومي يضعها في تناقض تام مع النموذج الديني-الطائفي الذي تُقدّمه إيران. ومن هذا المنطلق بالتحديد، فإنّ العنصر “الطائفي” الذي من المفترض توظيفه في القياس القائل إن “إيران لا تدعم شيعة أذربيجان وأنّ هذا دليل على أنّ سياساتها غير طائفية” غير موجود أساساً في المعادلة. فضلاً عن ذلك، ينظر الطرفان إلى بعضهما البعض بتوجّس كبير نظراً لما يمثّلانه من نموذج متناقض: أذربيجان (علمانية-قومية) في مواجهة إيران (دينية-طائفية).
العنصر الطائفي يظهر مع تخوّف الجانب الإيراني من أن يمثّل نجاح نموذج أذربيجان (العلماني-القومي) خطراً على النموذج الإيراني الذي يقدّم نفسه من الزاوية الطائفية بحيث يصبح نموذج أذربيجان جذّاباً للشيعة الإيرانيين وللأذريين الإيرانيين أيضاً بشكل يؤدي إلى تقويض نموذج الحكم الايراني الديني. علاوةً على ذلك، فإنّ أذربيجان كانت تتخوّف بشكل دائم من سياسة تصدير الثورة التي يمارسها النظام الإيراني ولذلك حمت نفسها من خلال التقرّب إلى الغرب، الأمر الذي ساعد في توسيع الفجوة بين الطرفين لاسيما مع توجّه إيران باتجاه روسيا لتخفيف الضغوط الغربية عنها.
من هذه الزاوية بالتحديد، فإنّ إيران أقرب إلى أرمينيا، فكلاهما يعتمد الدين-الطائفة في تحريك العامة، كما أنّ أرمينيا المسيحية -بخلاف أذربيجان- لا تشكّل خطراً على النموذج الإيراني، بل على العكس، أرمينيا مسيحية قويّة متفوقة على أذربيجان تقوّض من نموذج الأخيرة وتستثير النزعة الطائفية.
هناك جزء من الموقف الإيراني يتعلق بالحسابات الأمنيّة أيضاً. أذربيجان علمانية- قومية- قوية ومزدهرة تشكّل حافزاً ليس فقط للشيعة الإيرانيين بشكل عام وإنما للشيعة الإيرانيين من القومية التركية. المواطنون الإيرانيون الأذريون يُشكّلون حوالي ربع إلى ثلث عدد السكّان في إيران. تختلف التقديرات باختلاف المراجع والتوجهات الأيديولوجية، وهناك من يُقلّل من نسبتهم ويجعلها أقل من ذلك. لكن في جميع الأحوال، من المتّفق عليه أنّ الأذريين-الأتراك من مواطني إيران هم أكبر أقلّية على الإطلاق بعد الفارسية ويتركّزون بشكل أساسي في منطقة أذربيجان في الشمال الإيراني. بسبب الهجرات المتتالية من تلك المنطقة إلى العاصمة، يُعتقد كذلك أنّ حوالي ثلث سكّان طهران أصبحوا من الأقليّة الأذرية.
دعم أرمينيا ضد أذربيجان يحول دول تواصل الأذريين الإيرانيين بأقرانهم بأذربيجان ودون إحياء أحلامهم الاستقلالية. سبق لمقاطعة أذربيجان التي تقع في شمال إيران أن أعلنت استقلالها عن إيران وقيام جمهورية أذربيجان الشعبية في العام ١٩٤٥، مُتّخذة من تبريز عاصمة لها. صمدت هذه الجمهورية عاماً واحداً قبل أن تنتهي بعد تدخّل الجيش الإيراني بدعم غربي لاسيما من الولايات المتّحدة الأميركية.
في الجانب الأمني أيضاً، يشير البعض إلى أنّ دعم إسرائيل لأذربيجان هو عامل محدّد في موقف إيران ضد أذربيجان. وفقاً لأرقام العام ٢٠١٧، تحتل أذربيجان المرتبة الثالثة في قائمة أكبر مستوردي السلاح من إسرائيل بواقع ١٣٧ مليون دولار، ومن المعروف أنّ تل أبيب تزوّد باكو على وجه الخصوص بطائرات انتحارية من دون طيّار. لكن في حقيقة الأمر، فإنّ العامل الإسرائيلي لاحق على المعادلة وليس سابقاً لها، لا بل أنّه على الأرجح عنصر مفسّر للمعادلة بطريقة معكوسة. بمعنى آخر، فإنّ دعم إيران لأرمينيا أدى إلى استعانة أذربيجان بإسرائيل وتقوية العلاقات معها.
هناك جزء يتعلق بالحسابات المصلحيّة أيضاً وبالتنافس التركي- الإيراني. فبعد انهيار الاتحاد السوفيتي في أواخر الثمانينيات وانحلاله بشكل رسمي في نهاية العام ١٩٩١، حاولت تركيا، العضو في حلف شمال الأطلسي، أن تمدّ نفوذها إلى آسيا الوسطى والقوقاز على اعتبار أنّ معظم هذه المناطق هي جزء ممّا يسمى بالعالم التركي الذي تقطنه شعوب من القومية التركية، لكنّ روسيا قاومت هذا المشروع خوفاً من تمدّد الناتو إلى تخومها، وكذلك فعلت إيران التي أرادت أن يسود مشروع قومي فارسي أو شيعي المذهب.
تقاطعت مصالح موسكو مع مصالح طهران آنذاك في مواجهة الدور التركي الذي يُنظر إليه على أنّه منافس لهما في مناطق تعتبرها روسيا جزءاً من إمبراطورتيها السوفيتية السابقة، وتعتبرها إيران تاريخياً جزءاً من بلاد فارس الكبرى ومن الثقافة الفارسية. ولذلك، فقد فضّلت موسكو بعد انهيار الاتحاد السوفيتي مباشرة أن تتيح لإيران هامشاً واسعاً في هذه المنطقة أيضاً لمواجهة الصعود السنّي في القوقاز وآسيا الوسطى. وفي هذا السياق، فإنّ وقوف إيران مع أرمينيا هو في حقيقة الأمر وقوف لطهران ضد تركيا وليس ضد شيعة أذربيجان، كما أنّه يحفظ مصالح إيران مع روسيا في المنطقة.
المسؤولون الإيرانيون يشددون مؤخراً على أنّهم يفضّلون الحل السلمي، لكنّهم كانوا قد لمّحوا في أكثر من مناسبة أنّهم يفضلون بقاء احتلال إجزاء واسعة من أذربيجان على اندلاع حرب جديدة تؤدي إلى صعود القومية التركية في المنطقة وإلى نشوء حزام تركي محيط بهم أو إلى تدخل قوّات تركية لمساعدة باكو.
نقطة أخيرة هنا وهي أنّ أذربيجان دولة غنية بالغاز والنفط، وهي من هذه الزاوية أيضاً تزعج روسيا وإيران لأنّها تنقل الغاز إلى تركيا وعبرها إلى أوروبا أيضاً وهذا يقوّض من وضع البلدين. تقوم أنقرة مؤخراً بتخفيف الاعتماد على صادرات الطاقة من موسكو وطهران لحماية أمن الطاقة لديها وللتخلّص كذلك من عبء الارتهان إلى البلدين والذي يقيّد خياراتها السياسية ونطاق المناورة لديها. وقد برزت أذربيجان العام الماضي كأكبر مصدر للغاز إلى تركيا لتحل محل روسيا وتتقدم على إيران أيضاً ولا شك أنّ الضغط على أذربيجان من بوابة أرمينيا يدخل في حسابات الطاقة أيضاً.