عبد الناصر العايد
كثر الحديث والتكهنات حول الغايات التركية من معارضة انضمام كل من فنلندا والسويد إلى حلف الناتو، وعلى الأخص في الملف السوري. لكن نظرة فاحصة تقول إن أنقرة لن تستطيع ابتزاز دول حلف الناتو عبر منح تلك الموافقة الإجبارية وفق ميثاق تأسيس الحلف، ومن ثم فإن أردوغان لن يستطيع بيع هذا “الفيتو” سوى لموسكو، التي قد تكون مهتمة به نظراً للظروف الضاغطة التي تلمّ بها من كل جانب.
يقتضي حصول فنلندا والسويد على عضوية الناتو، عملية بيروقراطية طويلة، أحد أجزائها موافقة برلمانات الدول الثلاثين من أعضاء الحلف كاملة، إضافة إلى دراسات عسكرية ومشاورات فنية مطولة وإجبارية. وقد استلزم قبول الجبل الأسود في الحلف مؤخراً، 18 شهراً. ورغم الاستعجال الواضح في ما يخص الموافقة على طلبَي فنلندا والسويد، لأسباب سياسية، ولكَون بُنية جيشيهما تتطابق مع بنية بقية جيوش الناتو، إلا أنه ليس متوقعاً، وفق معظم الخبراء، أن تنجز العمليات الضرورية قبل سنة واحدة، أي أن مماطلة أنقرة في الموافقة التي أعلن أردوغان تردده في منحها، هي جزء من البطء المفترض، وليست شيئاً معرقلاً في حد ذاته.
وحتى يحين موعد الاستحقاق النهائي، أي التصويت بنعم أو لا، فقد تعهد عدد من دول الحلف، بالدفاع عن السويد في المرحلة الانتقالية، فيما لو شنت روسيا هجوماً انتقامياً. فأصدرت النروج والدنمارك وأيسلندا، بياناً مشتركاً لإعلان الالتزام بالدفاع عن الدولتين المرشحتين خلال مرحلة الانتظار، فيما وقع رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون، اتفاقيات أمنية مع البلدين تُلزم بلاده بتقديم المساعدة التي يطلبانها إذا ما وقع عليها هجوم.
ودعماً لدول الحلف التي تعهدت بمساعدة السويد، أعادت واشنطن نشر قوة كانت تتمركز في إيطاليا، وأرسلتها إلى دول البلطيق، ودعمتها بطائرات F-35 المتطورة وحوّامات أباتشي الهجومية، كما ضاعف الناتو حجم قواته في إستونيا وبلغاريا ورومانيا والمجر وسلوفاكيا ولاتفيا وليتوانيا. ما يعني أن دخول الناتو حرباً محتملة دفاعاً عن السويد وفنلندا، لا يقتضي موافقة تركيا من عدمها، وهي أصلاً بعيدة جداً من ميدان القتال المفترض، ويكاد تأثيرها في نتائجه يكون شبه معدوم.
من ناحية أخرى، فإن الغرب، الذي لا يسعى إلى “إذلال” روسيا، كما قال الرئيس الفرنسي ماكرون، سيكون مستعداً لطي صفحة انضمام هاتين الدولتين إلى الحلف، أو تأجيله -ربما بالتذرع بالفيتو التركي ذاته- لأطول فترة ممكنة، والاستعاضة عنه باتفاقيات دفاع مشترك بين فنلندا والسويد وعدد من دول حلف الناتو، في مقابل تراجع روسيا عن استراتيجيتها التوسعية. وهو ما يمكن أن يحدث في حال أدرك بوتين حجمه ومدى قوته، أو إذا ما حدثت تغيرات جوهرية في الكرملين والمنظومة التي تحكم روسيا اليوم.
ليس واضحاً بالضبط ما يمكن أن يطلبه أردوغان من الغرب، مقابل وضع موافقة بلاده، فهو يجدها فرصة قابلة للاستثمار، وقد مهد للمساومات السياسية بالقول إن كلاً من الدولتين المعنيتين، فنلندا والسويد، لا تبذلان ما يكفي لقمع أنشطة الجماعات الإرهابية “الكردية”، وخلايا التنظيم الموازي “فتح الله غولن” على أراضيهما. وأعاد التذكير بأن الدولتين فرضتا العام 2019 حظراً على بيع السلاح لتركيا إبان اجتياح قوات الأخيرة مدينة عفرين السورية. لكنه بالتأكيد ليس جادّاً حينما يطلب من الدول الاسكندنافية تقييد حرية مواطنيها أو اللاجئين فيها، لكنه قد يطلب تنازلات في قضايا أخرى، مثل قضية قبرص أو حتى النزاع مع اليونان، أو يعيد فتح ملف انضمام تركيا للاتحاد الأوروبي. والمؤكد، أن دول حلف الناتو لن تستطيع تلبية الكثير من طلبات تركيا في سوريا. وعليه، لا تبدو فكرة المقايضة التي يتم الحديث عنها، بين الفيتو ومكاسب في سوريا، واردة، إلا في حالة واحدة، وهي توتر، أو توتير تركيا لعلاقتها مع موسكو في سوريا على خلفية الموافقة على ضم السويد وفنلندا للناتو. فيغدو أمر التزام الناتو بتقديم عطاءات أكبر لأنقرة، أمراً منطقياً ومنسجماً مع ميثاق الحلف وتعهد دوله بمساعدة بعضها البعض، خصوصاً على ضوء الدعم غير المحدود لأوكرانيا التي لا تتمتع بعضوية الحلف أساساً.
لكن روسيا يمكنها أن تقدم تنازلات أكثر مما يقدمه الغرب لتركيا، لأن موسكو تنظر إلى الحرب والعزلة المفروضتين عليها، واستمرار توسع الناتو، كتهديد وجودي، وهي بحاجة ماسّة إلى خرق الحصار من الجنوب، وجعل الحلف يتآكل في مكان ما، بموازاة تمدده في مكان آخر. ولأنه لا تعهدات مُلزمة لها في سوريا، لا بالنسبة لنظام الأسد ولا الأكراد، فإنها قادرة على منح أردوغان كل ما يطلبه مما تقع يدها عليه هناك، كتخفيف أو تقليص وجودها ودعمها العسكري لقوات النظام في الشمال، أو الضغط عليه سياسياً لتقديم تنازلات دائمة وتوقيع اتفاقيات. وفي ما يخص الأكراد، يمكنها أن ترفع مظلتها الحالية عن مناطق بعينها، لإفساح المجال لتوغل أو نشوء نفوذ لأنقرة فيها، كما أنها على استعداد، أبدته دائماً، لتزويد الجيش التركي بأي نوع من أسلحتها الحديثة. وأخيراً، هي لا تمانع في أن تأخذ جارتها الجنوبية الكبيرة، دوراً أكبر في العلاقات الإقليمية والدولية، من خلال احترام وساطة أنقرة في النزاع مع أوكرانيا، أو مراعاة نفوذها في آسيا الوسطى وحوض المتوسط.
لكن بوتين أيضاً، يمكنه أن يذهب بنفسه إلى الغرب، ليقود مفاوضات على تسوية ما لمجمل النزاع في أوروبا الشرقية، وحصول خطوة كهذه سيعني انقلاب حسابات أنقرة رأساً على عقب، وستخسر في كلا المقلَبين. وبالنظر إلى البراغماتية الشديدة لأردوغان، ومع الأخذ في الاعتبار سلوكه في قضايا مشابهة، فإن المتوقع أن يظل محافظاً على موقف وسطيّ دقيق، يمكّنه من الانتقال إلى الموقف الأكثر ملاءمة له، في الوقت المناسب تماماً، وهو سيخوض بالتأكيد مزيجاً من المساومة مع روسيا والغرب في آن واحد، ليجني أكبر ربح محتمل.
المصدر: المدن