في مطلع شهر شباط من العام ٢٠١٩، خرج أبو اليقظان المصري من صفوف هيئة تحرير الشام بسبب الخلاف بينه وبين قيادة الهيئة حول الموقف من عملية (غصن الزيتون) التي انتقدها الداعية المصري، بينما أيدتها “تحرير الشام” على لسان قائدها أبي محمد الجولاني.
لم يطل الأمر كثيراً حتى لحق بـ (أبو اليقظان) مواطنه أبو شعيب المصري، وهما الاثنان كانا قد غادرا حركة أحرار الشام قبل ذلك على رأس مجموعة كاملة هي (لواء مجاهدو أشداء) والسبب أيضاً كان الخلاف مع قيادة الحركة عام ٢٠١٦ في الموقف من التحالف مع تركيا بالدرجة الأولى، حيث ينظر الاثنان إلى الحكومة والجيش التركي على أنهما (علمانيون يحرم التحالف أو التعاون بينهما)!
والواقع أن قضية التحالف أو التعاون، أو حتى التعامل مع الجارة تركيا، لطالما مثلت مسألة إشكالية بالنسبة للتيار السلفي الجهادي، تعود إلى ما قبل التدخل العسكري التركي المباشر في سوريا، حيث كانت محل جدل واسع منذ أن كان هذا التيار يجرّم الجيش الحر والمعارضة السياسية بسبب مجرد العلاقة مع أنقرة.
لكن هذا الملف شهد خلال السنوات الثلاث الماضية على الأقل تحولات كبيرة، بدأت بتخفف حركة أحرار الشام من كل ما يعيق تحالفاً كاملاً مع تركيا، ولم تنته عند قبول هيئة تحرير الشام التعاون مع أنقرة في قضية نقاط المراقبة، وصولاً لإعلانها تأييد التدخل العسكري ضد قوات سوريا الديمقراطية في الشمال الشرقي نهاية العام الماضي، فيما عرف وقتها بعملية (غصن الزيتون).
لم يقتصر الأمر على جماعات وقوى المدرسة السلفية الجهادية العسكرية فقط، بل شمل كذلك مرجعيات التيار ومنظريه الذين انتقل أغلبهم من العداء المطلق لتركيا إلى التصالح معها.
ومع انطلاق عملية (نبع السلام) عاد الجدل من جديد داخل التيار حول توصيف الجيش والحكومة التركية، وحول شرعية التعاون والتحالف معهما، ولكن مع حدة أقل من ناحية، وصمت للتنظيمات العسكرية وامتناع قادتها عن التعليق على هذه العملية من ناحية ثانية.
فكما كان متوقعاً، لم يعبّر أيُّ فصيل جهادي في سوريا عن موقف رسمي تجاه النسخة الثالثة من التدخل العسكري التركي، بعد عمليتي درع الفرات وغصن الزيتون، وإن كانت هذه الفصائل قد تركت لأنصارها مهمة التعبير عن رأيها الضمني.
ثلاثة تشكيلات جهادية أساسية يمكن القول إنها تتنازع التيار في سوريا حالياً، هي بالإضافة إلى هيئة تحرير الشام، حراس الدين وأنصار التوحيد. التنظيمان الأخيران تجاهلا عملية (نبع السلام) وهو موقف متوقع بالنظر إلى القلق الذي يسيطر على هذين الفصيلين من مستقبل العلاقة مع تركيا، حيث يخشى كل منهما أن يكون الهدف التالي لها ولحليفها الجيش الوطني، وعليه فهما يفضلان تجنب أي تصعيد لا طائل منه مع أنقرة.
ثلاثة تشكيلات جهادية أساسية يمكن القول إنها تتنازع التيار في سوريا حالياً، هي بالإضافة إلى هيئة تحرير الشام، حراس الدين وأنصار التوحيد
وقد يكون لدى هيئة تحرير الشام المخاوف نفسها، إلا أنه لا يمكن المطابقة بينها وبين التنظيمين السابقين، خاصة لجهة الانفتاح السابق الذي أبدته تحرير الشام تجاه تركيا، ولولا معاناة الهيئة من الخلافات والتخبطات الداخلية في الوقت الحالي، لربما سارعت قيادتها إلى تبني موقف مؤيد للعملية الجديدة أيضاً.
لكن كلا الجانبين، هيئة تحرير الشام من جهة، وحراس الدين وأنصار التوحيد من جهة ثانية، تركا لمؤيديهما مهمة التعبير عن المواقف بشكل غير مباشر على مواقع التواصل الاجتماعي، حيث هاجم عناصر ومناصرو (الحراس) و(الأنصار) مجدداً الجيش التركي، ووصفوه مرة أخرى (بالجيش العلماني) كما أكدوا على ردة حكومة أنقرة، معتبرين الجيش الوطني الذي يقاتل معها (مجرد جيش من المرتزقة) سترميهم تركيا عند أول فرصة.
موقف ساندهم فيه وبقوة الداعية الفلسطيني الأردني (أبو محمد المقدسي)، الذي يعتبر حالياً المرجعية الأولى لكل من حراس الدين وبالدرجة الأولى للواء أنصار التوحيد، داخل التيار السلفي الجهاد. المقدسي رفض أي تهاون في توصيف الجيش أو الحكومة التركية كمؤسستين (غير مسلمتين)، وأكد على حرمة القتال إلى جانبهما، “لأنها معركة تخص الأمن القومي والحدود الوطنية لتركيا”، معتبراً “أن من يثق بأردوغان كمن يثق ببوتين!”.
لكن المقدسي وأنصاره لم يخفوا سعادتهم في الوقت نفسه بهذه المعركة، لأنها تمثل من وجهة نظرهم “ضرباً لعدوين ببعضهما البعض”، مع التشديد على التشفي بـ قسد المنهزمة، بل إن بعضهم لم يخف شماتته بالنازحين المدنيين الأكراد من مناطق الاشتباك، بمن فيهم المقدسي نفسه، الذي نشر صورة عائلة كردية فارة من المنطقة الحدودية، وعلق عليها بالقول “بالأمس عوائلنا واليوم عوائلكم..كما تدين تدان”.
سقطة تلقفها أنصار هيئة تحرير الشام، الذين كانوا قد عبروا، منذ الإعلان عن عملية نبع السلام، عن تأييدهم للعملية، باعتبارها تشكل انتكاسة لحزب العمال الكردستاني (الملحد)، مؤكدين على أن موقفهم من هذه المعركة، وإن كانوا يرفضون مشاركة الهيئة فيها، إلا أنه موقف داعم من “منطلق شرعي يقوم على الموازنة بين المفاسد والمصالح”.
موقف أكد عليه المنظر السلفي الجهادي أبو قتادة الفلسطيني، الداعم لهيئة تحرير الشام، والذي غالباً لم يكن ليدلي برأي في عملية (نبع السلام) لولا السقطة التي وقع فيها المقدسي بشماتته بالنازحين الأكراد ومثلت فرصة للنيل منه، إذ ومنذ تطور الخلافات بين هيئة تحرير الشام وبين خصومها داخل التيار السلفي الجهادي، بات (الفلسطيني) أكثر تجنباً للخوض في القضايا السياسية، وخاصة تلك المتعلقة بالشأن السوري، وذلك على عكس الأحداث المشابهة السابقة التي كان يمنحها الكثير من وقته، بما في ذلك عملية (درع الفرات) التي عارضها بشدة وحذر من المشاركة فيها، وهو موقف كان ينسجم وموقف هيئة تحرير الشام في ذلك الوقت، الذي تغير مع عملية (غصن الزيتون).
محاولة تجنب التعليق على العملية، ينطبق أيضاً على الداعيين المصريين، هاني السباعي وطارق عبدالحليم، اللذين اكتفيا، وعلى غير العادة، بالتطرق على عجالة لعملية (نبع السلام)، معبرين عن موقف “محايد من الناحية الشرعية، لكنه مؤيد من ناحية النظر السياسي” على حد قول السباعي في خطبته يوم الجمعة الماضي، وهو موقف ضبابي ينسجم مع موقف الفريق الذي حافظ على تأييده لقيادة تنظيم القاعدة للتيار السلفي الجهادي، حيث يقدم الداعيين المصريين نفسهما على أنهما ممن يمثل هذا الفريق.
والواقع أن الخشية من التصريح بتكفير الحكومة والجيش التركي تجنباً لإغضاب الجمهور السني الداعم لها في غالبية العالم الإسلامي، وفي الوقت نفسه، الخشية من تأييد عملية نبع السلام صراحة تجنباً لغضب التيار السلفي الجهادي، كان السمة الغالبة على جميع مشايخ التيار ودعاته تقريباً، بمن فيهم المستقلون عن التنظيمات.
السعودي عبدالله المحيسني الذي تعرض في السابق لهجوم عنيف من أنصار التيار وبعض رموزه أيضاً، بسبب ترحيبه بفوز حزب العدالة والتنمية بالانتخابات البرلمانية التركية، اكتفى هذه المرة بالسخرية من موقف الدول المعارضة للعملية التركية، والتعليق عليها بالقول: “نعم لتحييد الخصوم، لكن الحذر من الاتكاء على الاتفاقات السياسية، فقسد حليفة أميركا المدللة، بلحظة باعتها أميركا واشترت مصلحتها”.
الموقف الواضح والصريح في دعم عملية نبع السلام والحكومة التركية عبر عنه مجدداً من يمكن وصفهم بالتيار الإصلاحي أو الثوري داخل المدرسة السلفية الجهادية، ويمثلهم اليوم في سوريا كل من الكويتي علي العرجاني والسعودي ماجد الراشد، وهما قياديان سابقان في جبهة النصرة، انشقا عنها عام ٢٠١٤ وعرفا برفضهما إطلاقات السلفية الجهادية التقليدية فيما يتعلق بتكفير الحكومات والجماعات الإسلامية.
من ناحيته اعتبر العرجاني “أن من لم يبصر الخير والمصالح التي جلبتها عملية درع الفرات ثم غصن الزيتون فلن يبصر الخير العظيم في عملية نبع السلام”، بينما سخر الراشد من موقف (أبو قتادة الفلسطيني) وأنصار هيئة تحرير الشام من العملية بالقول “كان الأتراك علمانيين، وعندما أدخلهم الجولاني إلى إدلب أصبحوا مسلمين .. وبالأمس كان من يمشي معهم خطوة فهو مرتد، واليوم القتال مفاسد ومصالح..إنها باطنية المناهجة!”.
ما زال أبو شعيب المصري متمسكاً بموقفه، إذ جدد تحريم التعاون مع الجيش التركي، بينما لاذ توءمه الفكري أبو اليقظان بالصمت هذه المرة. تباين ما زال يطبع مواقف غالبية جماعات ودعاة التيار السلفي الجهادي تجاه كل من تركيا التي يقودها حزب العدالة والتنمية، وتجاه الثورة السورية بتعقيداتها أيضاً، بالإضافة إلى العلاقة ما بين تركيا وقوى المعارضة الوطنية والإسلامية، حيث تمثل هذه القضايا إشكالية عميقة لم تتمكن السلفية الجهادية حتى الآن من حسم المواقف تجاهها.
عقيل حسين-تلفزيون سوريا