“الحاجة إلى الفكر لا يمكن إشباعها إلا بالفكر، والأفكار التي أمتلكها بالأمس لا تشبع حاجة الغد، اذ هي الأخرى تخضع إلى إعادة النظر. نعزو إلى كانط التمييز بين الفكر والمعرفة، وبين العقل (السرعة في التفكير والفهم) والفكر الذي يرغب ويقدر على معرفة بعض المعارف الخاصة واليقينية…
أعتقد في هذا السياق أن التمييز بين العلم والفكر لا بد منه، وإن كانت القدرة على التمييز بين الخير والشر لها علاقة بالقدرة على التفكير، فإنه من الضروري أن نحيّين ونجدد هذه القدرة لدى كل صاحب عقل سليم، بغض النَّظر عن سِعة علمه أو جهله أو فطنته أو حماقته، كانط كان تقريبا الفيلسوف الوحيد الذي انزعج بالفكرة المألوفة التي ترى أن الفلسفة لا تعني إلا الأقلية، تحديداً فيما يرتبط بالنتائج الأخلاقيَّة، لذلك يقول: “الحماقة من أثر القلب السيء”، وأظن أن الكلام صحيح، إذ ليست الحماقة هي العجز عن التفكير، ويمكن أن نلاحظها لدى بعض الأفراد الأذكياء، وقد يكون الشر هو السبب، باعتبار أن غياب الفكر هو حماقة في حد ذاته وهي من الظواهر المألوفة، فالإشكالية تكمن تحديداً في أن القلب السيء قد لا ينتج الشر بالضرورة. بكلمات كانطية فنحن بحاجة إلى الفلسفة بوصفها ممارسة للعقل أو لملكة الفكر للوقاية من الشر.
يبقى إذاً، أنّ الفكر يعنى بالمواضيع الغائبة، التي تتجاوز الإدراك الحسي المباشر، موضوع التفكير لا يفتأ أن يكون صورة، أي أن الموضوع أو الشيء في حالة الغياب لا يحضر إلا في الفكر ذاته، والفكر لا يمكن ممارسته بلا خيال، بطريقة أخرى، عندما أفكر فأنا أنعزل عن عالم الظواهر وإن كان تفكيري له علاقة بالقضايا المحسوسة البسيطة، فأن أفكر في شيء ما، يعني ذلك أن هذا الشيء ليس عياناً، وأن نفكر في شيء هو حاضر أمامنا. يظل جوهر الإنسان هو “الفعل” كملكة فطريَّة تمكنه من “البدء الجديد”. على هذا الأساس يطمح التفكير إلى بناء فهم جديد للواقع غير أن الإبداع ليس بالضرورة “فعلا”. الفعل وحده النشاط يربط فيما بينه دون وساطة الأشياء والمواد، وبالتالي فإنه يتطابق مع الوضعية الإنسانية المتعددة التي لا يجب أن تغيب عن أذهاننا، فنحن نتقاسم العالم مع الآخرين لكي نشكل لحمة إنسانية واحدة لكنها متعددة وتقوم على اختلاف لا نهائي”.
حنّة آرنت: “التفكير والاعتبارا أخلاقيا”، ترجمة، جهاد شارف، ماخوذ من الكتاب الجماعي: “الفعل السياسي بوصفه ثورة: دراسات في جدل السلطة والعنف عند حنة آرنت”، ص 595 – 597