جسر: متابعات:
على ملأ من «حضور كبير» اعتبره «أوّل ردّ على الاعتداءات الإسرائيلية» التي استهدفت مواقع تابعة لـ«حزب الله» في الضاحية الجنوبية من العاصمة اللبنانية، وكذلك في عقربا جنوب العاصمة السورية؛ كان حسن نصر الله، الأمين العام للحزب، قد توعد جيش الاحتلال الإسرائيلي هكذا: «قفْ على الحائط على رجل ونصف وانتظرنا، يوما، إثنين، ثلاثة، أربعة، انتظرنا». وإذْ كرّر أنه لا يمزح، و«جيش إسرائيل» حسب تعبيره يعلم أنّ السيد لا يمزح، وإذا قتل جيش الاحتلال أياً من «إخواننا» في سوريا (الأمر الذي وقع بالفعل، في ضواحي دمشق)، فإنّ الردّ على القتل سيكون «في لبنان وليس في مزارع شبعا»؛ فلعلّ تل أبيب أرادت اختبار مدى انطباق هذه الأقوال على الأفعال، جزئياً بادئ ذي بدء، فقصفت موقعاً لـ«الجبهة الشعبية ـ القيادة العامة» في البقاع.
ولعلّ بنيامين نتنياهو، رئيس حكومة الاحتلال، أراد من جانبه استعراض عضلاته في سباق مَن يعرف وماذا يعرف، فذكّر بأنّ نصر الله يعرف جيداً أنّ دولة الاحتلال تعرف كيف تدافع عن نفسها. صحيح أنّ مفردة «إخواننا» قد لا تنطبق تماماً على جماعة أحمد جبريل، لكنّ القصف الإسرائيلي استهدف حليفاً للحزب، وذراعاً ضاربة ترتزق لدى النظام السوري، وعضواً في «جبهة الممانعة» دون سواها، والموقع المستهدف يقع على مبعدة أمتار قليلة من قواعد الحزب؛ وبالتالي ثمة الكثير الذي يوحي بأنّ «جيش إسرائيل» لا يستفزّ أقوال نصر الله فحسب، بل يلوح أنه يستحثه على الردّ. وحتى ساعة كتابة هذه السطور تكون خمسة أيام، وليس أربعة، قد انقضت على مهلة إبقاء جيش الاحتلال على «رجل ونصف»، بموجب وعيد نصر الله، من دون أن تعكّر صفو الحدود اللبنانية ــ الإسرائيلية أية واقعة لها صفة الردّ من جانب الحزب؛ إلا إذا اعتُبر إطلاق الجيش اللبناني النار على طائرات مسيّرة إسرائيلية، في العديسة وكفر كلا، مأثرة للحزب في الآن ذاته.
مَنْ يعشْ يرَ، في كلّ حال، ليس دون استئناس عقلاني بتلك المقولة البسيطة التي تضع «حزب الله» في خانة كتيبة ملحقة بعديد كتائب المرشد الأعلى للثورة الإيرانية، علي خامنئي، باعتراف نصر الله ذاته؛ وبالتالي فإنّ قرار الردّ، سواء أكان رمزياً أو حتى تجميلياً يحفظ ماء الوجه أغلب الظنّ، أو كان محض اكتفاء بالوعيد اللفظي والخطب الطنانة الرنانة، هو في طهران وحدها، وليس في بيروت أو الضاحية أو حيث يختبيء نصر الله منذ 13 سنة. وبهذا المعنى، وقياساً على المنطق البسيط هنا أيضاً، وعلى جلاء عناصر المشهد و«قواعد الاشتباك» إياها، فإنّ خامنئي ليس بصدد اتخاذ قرار بخوض حرب مع دولة الاحتلال؛ حتى في مستوى معارك محدودة النطاق، وبالإنابة فعلياً، في لبنان أو في سوريا أو في العراق. ولو كانت طهران تمتلك هذه النيّة، لوجدت في مناسبات سابقة ذرائع أجدى لشنّ الحرب ودفع الأكلاف، حين وجّه جيش الاحتلال ضربات قاصمة لأهداف إيرانية مباشرة، أدسم بكثير من اغتيال اثنين من عناصر «حزب الله» في عقربا السورية.
وبهذا المعنى أيضاً، أي اتضاح خضوع «حزب الله» لقرارات خامنئي في كبائر الأمور على الأقلّ، وبينها دخول سوريا للقتال إلى جانب نظام بشار الأسد، أو مناوشة دولة الاحتلال في جنوب لبنان ثمّ الامتناع عن أيّ وكلّ «مقاومة» منذ آب (أغسطس) 2006، أو تدريب ميليشيات الحوثي في اليمن؛ فإنّ خطابات نصر الله فقدت تسعة أعشار البريق الذي كانت تحظى به في أسماع شارع عربي عريض، عابر للطوائف والمذاهب. كذلك توجّب أن يكشف نصر الله عن الصبغة الشيعية الصريحة التي حرص طويلاً على تمويهها تحت ستار الوحدة الوطنية اللبنانية، وبات مضطراً إلى إعلان انضواء الحزب في مبدأ الولي الفقيه، بل ذهب أبعد صيف 2013: «نريد أن نقول لكلّ عدو ولكلّ صديق، نحن شيعة علي بن أبي طالب في العالم»؛ و«نحن حزب الله. الحزب الإسلامي الشيعي الإمامي الإثنا عشري»؛ و«قولوا رافضة. قولوا إرهابيين. قولوا مجرمين. اقتلونا تحت كل حجر ومدر، وفي كل جبهة، وعلى باب كلّ حسينية ومسجد، نحن شيعة علي بن أبي طالب!»…
والأرجح أنّ الكثير من هذه الخطب تحوّل إلى جعجعة بلا طحن، وإلى أكاذيب عارية عن الصحة في الحدود الدنيا، وإلى خداع ومخادعة عليهما تنطبق القاعدة الأخلاقية في الحديث النبوي الشهير: مَنْ غشّنا ليس منّا. لقد كذب السيد منذ أولى خطاباته التي تضمنت المراوغة حول وجود عناصر «حزب الله» في سوريا، زاعماً أنّ «الجيش العربي السوري ليس بحاجة إلينا»؛ وكذب بصدد الدفاع عن المقدسات الشيعية في ظاهر دمشق، حين كانت ميليشياته تقاتل في القصير، البلدة السورية ذاتها التي آوت مقاتلي الحزب من ويلات القصف الإسرائيلي سنة 2006؛ ويكذب اليوم، أكثر من ذي قبل، حين يزعم أنّ الانتفاضة الشعبية السورية كانت مجرّد «مشروع» تآمري «لم يكن هدفه لا الديمقراطية ولا التغيير السياسي الداخلي، وإنما استهدف في الحقيقة نظاماً مقاوماً، وأبعد من ذلك، كانت هناك خريطة للسيطرة على المنطقة وتدمير المنطقة وإعادة تقسيم المنطقة على أسس عرقية وطائفية ومذهبية».
وهو يغشّ نفسه، قبل سامعيه، جهاراً نهاراً حين يعلن أنه «في نهاية المطاف، اليوم الدولة في سوريا، القيادة في سوريا، الجيش في سوريا، الرأي العام في سوريا، في أحسن حال، في أعلى وضوح، في استعادة للعافية والقوة والقدرة على صنع الإنجازات والانتصارات»؛ كلّ هذا حين يكون النظام رهينة موسكو وطهران وأنقرة وواشنطن، وتعربد في أجوائه دولة الاحتلال الإسرائيلي متى شاءت واينما ارتأت. لهذا فإنّ الحال الراهنة من خطاب نصر الله تذكّر بإفراطه الشديد في تلميع صورة الرئيس الإيراني السابق محمود أحمدي نجاد، أثناء زيارة الأخير إلى لبنان، خريف 2010؛ وكيف أنّ تضخيم سجايا نجاد القيادية كان منعطفاً فاضحاً، وفاقعاً، في معجم نصر الله: «نشمّ بك يا سيادة الرئيس رائحة الإمام الخميني المقدّس، ونتلمس فيك أنفاس قائدنا الخامنئي الحكيم، ونرى في وجهك وجوه كلّ الإيرانيين الشرفاء من أبناء شعبك العظيم الذين صدقوا ما عاهدوا الله عليه».
ومَنْ يعشْ سوف يرى أيهما ــ في قادم الأسابيع القليلة المقبلة ــ أكثر جعجعة، بلا طحن: نصر الله، الذي ينتظر قرار طهران؛ أم نتنياهو، الذي… ينتظر، بدوره، القرار الإيراني ذاته! ومع الفوارق، الكبيرة والكثيرة غنيّ عن القول، بين القدرات العسكرية للمنتظرَين كليهما؛ وهامش المناورة المتاح أمام كلّ منهما، بالقياس إلى مؤسسات القرار المختلفة، والسياقات السياسية والظرفية التي تبيح لكلّ جعجعة أن تسفر عن طحن أو محض ضجيج أجوف؛ ثمة وقائع متراكمة، ولا تكفّ عن التراكم عملياً، لا تبدو أمْيَل في الكفّة لصالح الأمين العام لـ«حزب الله». وليس مرجحاً، في المدى المنظور على الأقلّ، أن تُشعل طهران حرباً بأيّ مقدار ملموس من الجدّية العسكرية، الآن إذ تدخل في جهود حساسة مع الرئيس الفرنسي، ومن ورائه رعاة الاتفاق الدولي حول البرنامج النووي الإيراني، لتنشيط أقنية حوار مع واشنطن لا تقتصر على النووي وحده، ولا على العقوبات الامريكية؛ بل تشمل معظم، أو حتى كامل، سلّة النفوذ الإقليمي الإيراني على امتداد الشرق الأوسط.
٭كاتب وباحث سوري
القدس العربي 30 آب/أغسطس 2019