عمر قدور
سؤال الانسحاب الأمريكي من سوريا قفز إلى الواجهة بقوة منذ الانسحاب من أفغانستان، وبقي في حيز التكهنات رغم تأكيد إدارة بايدن على أن الخطر الإرهابي القادم من سوريا والعراق يفوق مثيله القادم من أفغانستان، ما يعني بقاء القوات الأمريكية في سوريا، وأيضاً بقاء المستشارين العسكريين في العراق. قلة عدد القوات الأمريكية في سوريا يجعل من انسحابها عملية صغيرة لا تشغل حيزاً في وسائل الإعلام، وعدم وجود سوريا ضمن الأولويات الأمريكية أصلاً سيجعلها خارج السجال الداخلي، باستثناء ما هو معتاد منه بين الجمهوريين والديموقراطيين.
بعيداً عن التشويق الإعلامي بين “تنسحب” و”لاتنسحب”؛ لقد انسحبت أمريكا فعلياً من سوريا. الانسحاب أتى تدريجياً وصولاً إلى ما يمكن اعتباره المرحلة النهائية منه، حيث في هذه المرحلة يتدبر مسؤولو إدارة بايدن أمر تمهيد الأجواء من أجل الخطوة النهائية التي لم يتقرر توقيتها بعد، خطوة إجلاء القوات ومعداتها على النحو الذي لم يقتصر على أفغانستان، بل تعداها إلى عملية إعادة انتشار أو إعادة نظر في طبيعة وجود القوات في السعودية والعراق.
لم تأتِ إدارة بايدن بجديد عندما ربطت وجودها في سوريا بخطر داعش، فالقوات الأمريكية في عهد أوباما دخلت سوريا للحرب على داعش، وعقد شراكتها مع قسد ينص على قتال داعش فقط وفقط. حدث انزياح عن هذه المهة في السنة الأخيرة من ولاية ترامب، فهو كان في مستهل عام2019 قد صرّح بأن خطر داعش انتهى، وقال عبارته الشهيرة آنذاك “سوريا ضاعت ولم يبق فيها إلا الرمال والموت” ليتراجع في الأسبوع الأخير من تشرين الأول في العام نفسه متحدثاً عن إبقاء قوات صغيرة تسيطر عل منابع النفط، ثم يصبح بقاؤها مكملاً الضغوط الأمريكية بموجب قانون قيصر، فلا يعود مقتصراً على هدف القضاء على داعش الذي كان ترامب قد أعلن الانتهاء منه.
الفكرة الأساسية فيما سبق أن إدارة بايدن عادت إلى السياسة التي لا تقرن وجود قواتها في سوريا بالقضية السورية نفسها؛ هي موجودة لتحقيق هدف يتعلق بـ”الأمن القومي الأمريكي”، وانسحابها مسألة وقت لا أكثر طالما أنه مرتبط بالإعلان عن تحقيق الهدف. التكهنات حول وجود أهداف أمريكية غير معلنة هي بمثابة اجتهادات شخصية لا تُسأل واشنطن عنها، فهي منذ اتصلت مع بعض فصائل المعارضة “قبل الاتفاق مع قسد” كانت جازمة في عدم ربط وجودها العسكري بالصراع السوري الداخلي، وكانت صريحة في عدم إعلان هدف واضح في سياستها السورية تُضطر إلى الالتزام به لاحقاً.
على كثرة ما قيل حول علاقة واشنطن بالأكراد، وتحديداً حول الدعم الذي يحظى به الأكراد في أوساط الحزب الديموقراطي، لم تحصل الإدارة الذاتية الكردية أو قسد على ضمانات أمريكية من أي نوع، لا ضمانات لإبقاء القوات الأمريكية، ولا ضمانات حول مستقبل الأكراد وفق الحل السياسي الذي طالبت به الإدارات الأمريكية الثلاث المتعاقبة. بل في العديد من المناسبات أتت توجهات الإدارات الأمريكية وتوجيهاتها لتشرح عدم وجود التزام، وتحديداً عدم ممانعتها وجود تواصل وعلاقة دافئة بين الإدارة الذاتية والأسد، أو التشجيع على التواصل معه في ما يبدو كترجمة للواقع تتدبر فيها السلطة الكردية أمرها وأمر مستقبلها مع سلطة الأسد من دون دعم أمريكي.
على وقع الانسحاب من أفغانستان، كانت قوات الأسد تخوض معركة الانقضاض على تفاهمات درعا، ومن أوجه نجاحها ونجاح موسكو ذلك التجاهل الأمريكي لما يحدث في بقعة جغرافية متاخمة لإسرائيل. أيضاً استبقت موسكو لقاء مبعوثيها بالمبعوث الأمريكي الخاص بالشرق الأوسط بريت ماكغورك بالعديد من الغارات على إدلب، ولم يتأثر إيقاع الغارات الروسية بلقاء جنيف الذي عُقد يوم الخميس الفائت، الأمر الذي يساعد على “ترجمة” الأجواء الإيجابية التي سادت أثناء اللقاء من دون أن يُفصح الجانبان عن تفاصيلها.
معروف عن بريت ماكغورك هذا سلبيته تجاه أنقرة وإيجابيته تجاه الأكراد، وسلبيته تجاه أنقرة تظهر برفضه الضغوط العسكرية التركية على قسد، أما إيجابيته إزاء الأكراد فتظهر بتشجيع الإدارة الذاتية على التفاهم مع الأسد! قبل اللقاء الأمريكي-الروسي في جنيف بيوم، كانت إلهام أحمد رئيسة اللجنة التنفيذية لمسد تلتقي في موسكو المبعوث الروسي للشرق الأوسط ميخائيل بوغدانوف، وهو “حسب الإعلام الروسي” أعاد على مسامعها الموقف الروسي الداعم “لسيادة وسلامة أراضي الجمهورية العربية السورية”، وربما يكون قد أشار “عرضاً” إلى درعا كمثال على استعادة السيادة، وأكد بيان وزارة الخارجية الروسية عقب الاجتماع على مواصلة الحوار الفعال بين مسد ودمشق. ومن المعلوم أن موسكو لا تمانع باتفاقيات تلحظ الخصوصية الثقافية الكردية، بينما يرفض الأسد “مسنوداً بموقف طهران وبالضغوط التركية على حزب العمال وتفرعاته” الاعترافَ بتلك الخصوصية، ولا يقبل سوى بمستوى محدود جداً من اللامركزية الإدارية الخالية تماماً من البعد السياسي.
قبل يومين زار وزير دفاع الأسد الأردن، وكما نذكر كان الملك الأردني قد دشن بعد زيارة له لواشنطن انعطافة معلنة في الموقف من الأسد، وزيارة وزير الدفاع لها مغزى “أمني” أبعد بكثير من اجتماع وزراء الطاقة الذي كان مكرساً لموضوع أنابيب الغاز المصري وشبكة الربط الكهربائية الواصلين إلى لبنان. إنه مؤشر يؤكد على أن الملك سمع في زيارته الأمريكية “أو لمس مناخاً” يتجاوز المعلن، حتى أن الإدارة هي التي بادرت لاحقاً إلى طرح إعفاءات من عقوبات قيصر، مع التلميح إلى تساهل قادم متى عُثر على مبرر له.
لا يُستبعد أن يكون التجديد القادم للمساعدات الإنسانية مناسبةً لتسهيلات جيدة تتعلق بعقوبات قيصر، بحيث تظهر الإعفاءات الجديدة إنسانية بحتة، ومن المحتمل جداً أن توافق واشنطن على تجديد تذهب من خلاله المساعدات كاملة إلى سلطة الأسد، وهي التي تتحكم بتمرير حصتي الشمال، الواقع تحت نفوذ تركيا والواقع تحت سيطرة الإدارة الذاتية. يجدر التذكير بأن عقوبات قيصر، مع قليل من التشدد الأمريكي، ردعت دولاً في المنطقة عن التطبيع مع الأسد، وفي عهد بايدن تبدو واشنطن وكأنها تعطي إشارة معاكسة لمن يرغب.
كل ما تفعله إدارة بايدن هو دفع الجميع إلى التفكير على أساس أنها سحبت قواتها من سوريا، رغم عدم تحديدها لتوقيت إجلاء تلك القلة من جنودها، فالعبرة في الانسحابات الأخرى من الشأن السوري التي ستجعل إجلاء القوات شأناً رمزياً. هو انسحاب تدريجي منظم بالتخلي الطوعي عن أدوات الضغط وعن الرغبة في استخدامه، بدأ في عهد أوباما، ليشكو ترامب من أن سلفه لم يترك له ما يفعله في “أرض الرمال والموت”، ثم ليأتي بايدن كمزيج من أسوأ ما في الاثنين.
المصدر: المدن