جسر: صحافة:
ربما صار الأسد عبئاً حتى على الروس. فسوريا استنزفتهم، واستنزفت إيران أيضاً. وكلا الطرفين باتا يتناتشان بقايا الدولة السورية، بحثاً عن دولار هنا وهناك. فروسيا العظمى دخلت في منازلة مع رامي مخلوف، بحثاً عن سيولة مالية. فيما إيران غارقة في مشكلاتها الداخلية والإقليمية مع العقوبات الأميركية.
وقد تكون أميركا وحدها ممسكة بخيوط أساسية مريحة في صراعات الشرق الأوسط، وتستنزف الجميع. فلا وقف للحروب، ولا إعمار لسوريا، إلا برضاها وبشروطها. فالروس والإيرانيون المأزومين اقتصادياً، غير قادرين على تقديم أي شيئ لسوريا. حاولوا ابتلاعها كفريسة، ولم يستطيعا هضمها.
“قانون قيصر” قد يقلب التوازنات في المنطقة، ويسرّع تفكك بقايا النظام السوري وتحلله. فنظام الأسد شيء، وبشار الأسد شيء آخر. نظام الأسد سقط قبل سنوات سبع، عنما وصل الثوار إلى تحت شباك قصر المهاجرين، واضطر الأسد الإبن إلى طلب النجدة من الروس، فتحول مجرد دمية في أيديهم. وظل في القصر صورة رسمية معلقة، مثل والده، في بعض دوائر الدولة لا أكثر. نظامه سقط، واليوم معرض الأسد نفسه للسقوط.
التظاهرات والدروز
من مؤشرات اقتراب سقوطه تجدد الاحتجاجات في مناطق سورية كثيرة، وفي دمشق أخيراً. ومنها أيضاً انقلاب الدروز على نظامه في السويداء، بعدما كانوا من أبرز مؤيديه طوال 50 سنة.
وكان وليد جنبلاط في لبنان قد انقلب من قبل على النظام الأسدي، بعدما أمضى حوالى 30 سنة في تبعيته له. ثم انفضّ عنه مع هبوب رياح التغيير الأميركية، فقفز جنبلاط الإبن من سفينة الاحتلال السوري الآفل في لبنان. الدروز وزعاماتهم يجيدون استباق هبوب الرياح السياسية. فهم العرب الوحيدون الحاضرون في الجيش الإسرائيلي. وهم مع النظام السوري لاستعادة الجولان. وهم مع الثورة السورية في لبنان. وهذا ليس من باب إدانتهم. بل توصيفاً لهم كجماعة أقلية ميكروسكوبية تجيد إنقاذ نفسها في منطقة زلازل وبراكين متل الشرق الأوسط.
خوف متجدد
وقد يكون الشرط الأول لأميركا كي توقف استنزاف الدب الروسي في سوريا، قطع رأس إيران وميليشياتها فيها. لم يعد وجود إيران في سوريا قابلاً للاحتمال. لقد أدوا دورهم وقسطهم للعلى، وحان موعد إقصائهم. هل ينطبق عليهم القول المأثور: “الناس نيام إذا ماتو انتبهوا”؟ وهو قول قد يقضّ مضاجع حسن نصرالله في لبنان، بعدما تكبد حزبه أكثر من ألفي قتيل وخمسة آلاف جريح، دفاعاً عن سوريا الأسد. فيا لضياع الخطب العصماء والتعرّق ورفع الأصابع، والانتفاخ بالقوة واللعب في ملاعب الكبار. لقد ذهب هذا كله هباءً، وكلف لبنان ما لا طاقة له على تحمّله.
لكن هيهات أن تعرف الحكمة سبيلها إلى عقول أصحاب الانتصارات الإلهية، فلا يغرِقون لبنان مجدداً في عبثية محاولاتهم إنقاذ نظام الأسد المقبل على الانهيار. ربما لم يعد ينفع ذاك النظام تهريبُ الطحين والمازوت والدولارات. والخوف كل الخوف من حزب سلطة وتسلط، مشبع بهلوسات دينية وماورائية أبوكاليبتية، من أن يختار هدم الهيكل على رؤوس اللبنانيين جميعاً.
كانت المعادلة التي أرساها حافظ الأسد وسمحت لنظامه أن يستمر طوال 40 سنة، تتجلى في تصدير مشاكل نظامه الداخلية إلى الخارج، باتباعه سياسة توسعية أنهكت لبنان والفلسطينيين. وكانت المعادلة هي التالية: بقاء الأسد في لبنان مسألة حياة أو موت لنظامه. وبعد سنوات ست على خروجه من لبنان انتقلت الأزمات والثورات إلى ملعبه الداخلي في سوريا.
والخوف اليوم من أن يقدم حزب الله على قلب المعادلة ليصبح خروجه (وإيران تالياً) من سوريا نهاية للنظامين اللبناني والسوري، والعراقي استطراداً، في خضم بداية سقوط المحور الإيراني كله.
هلوسة جماهيرية
كيف يمكن أن يتحلى بالحكمة والحِلم محورٌ يعتبر إعلامه وجمهوره أن مواجهته مع أميركا لم تصب بنكسة إقليمية كبيرة بعد مقتل رائده قاسم سليماني؟ والذي كان رد الحرس الثوري عليه، إسقاط طائرة مدنية على متنها 250 راكباً، ومن ثم تنظيم جنازة لسليماني قتل فيها 350 إيرانياً دهساً في الزحام. أليس هذا درساً قاسياً للممانعة التي عدّته، كعادتها، نصراً إلهياً على الاستكبار العالمي؟
قد يكون جواب هذا كله غير سياسي، بل يجب البحث عنه في علم النفس الجماهيري. فأي نقاش سياسي، مهما كانت الآراء، يكون ممكناً، شرط وجود حدٍّ أدنى من المنطق المشترك.
لكن كيف يستقيم نقاش يقوم على قواسم مشتركة، مع جماعات وجمهور واسع يعيش في التهويم والهلوسة والهذيان؟ هذه هي المأساة الحقيقية مع هذا الجمهور وتلك الجماعات التي خضعت طويلاً ولا تزال لغسيل دماغ مخيف.
فمرشدهم في لبنان تسبب بحروب دمرت مناطق وحولتها خراباً، وقتلت ألوفاً من أبناء بيئته، وهجرت تهجيراً موقتاً 90 في المئة منهم، وأدت إلى هجرة 10 في المئة منهم إلى خارج لبنان هجرة نهائية. وكانت نتيجة الحرب العملية تنفيذ كل شروط العدو التاريخي المذلة. لكن هذا كله امّحى سريعاً بعبارة “لو كنت أعلم”. وتحولت الحرب في أدبيات المرشد نصراً إلهياً.
فقر و200 ألف صاروخ
جمهور النصر الإلهي، مع سواه من اللبنانيين، يفتك بهم اليوم الجوع والفقر والغم. وشبان ذلك النصر يقاتلون في الخارج ويعودون إلى ديارهم وأهلهم في توابيت، ضحايا 600 دولار في الشهر. اقتصادهم وشطر من اقتصاد لبنان قائم على السوق السوداء والتهريب وزراعة الحشيشة وتصنيع المخدرات وتبييض الأموال.. وأجيال تتربى بلا أفق.. وتحسب هذا كله عنفواناً وكرامة، ظانّةً أن الجيش الإسرائيلي يتآكل خوفاً وقلقاً.
وتتطلب الموضوعية ألا نحمّل ما يسمى محور الممانعة وحده الكوارث والمآسي التي تصيب لبنان. فجماهير أو رعايا الزعماء اللبنانيين لها قسطها من كوارث لبنان ومآسيه.
لكن رعايا الزعامات اللبنانية، من غير جمهور الممانعة اللصيق بحزب الله، يتميزون بمسألتين:
أولاً، نسبة التهويم والهلوسة في سردياتهم ورواياتهم “لايت”، أو درجاتها يمكن ضبطها وهضمها وتسييلها في مشروع وطني مشترك، ولو بالحد الأدنى.
ثانياً، هلوسات الجمهور غير الممانع، ليست مدعومة بـ 200 ألف صاروخ، وبحوالى 50 ألف مقاتل، وبعلاقات أخطبوطية مع محور يبدأ من خندق الغميق ويمتد إلى سوريا والعراق واليمن، وصولاً إلى نظام الملالي في طهران.
_____________________________________________________________________________________
*نشر في المدن اﻷربعاء 10 حزيران/يونيو 2020، للقراءة في المصدر اضغط هنا