نفّذت قوات أميركية خاصة، إنزالاً جوياً في ليل 16 أيار/مايو 2015، في حقل العمر النفطي، وداهمت منزلاً في مدينته السكنية الملحقة، لتقتل وزير نفط لدى “داعش” نبيل الجبوري الملقب بـ”أبي سياف”. وقيل حينها أن القوات الاميركية عثرت على كنز من الوثائق والمعلومات بحوزته. وبعد انزالين مشابهين، في قلب مناطق سيطرة “داعش”، توقف هذا النوع من العمليات، ليعود إلى الواجهة في الشهرين الأخيرين بوتائر متصاعدة. الجديد هذه المرة، أن الإنزال يُنفّذُ في مناطق تم تحريرها من قبضة “داعش” منذ أكثر من سنة.
إنزالات خاصة
في فجر 4 كانون الثاني/يناير، قامت الحوامات الأميركية بإنزال قوات خاصة على منزل في شارع سيف الدولة بمدينة الرقة، لتعتقل شاباً من عائلة الجاسم، 26 عاماً، لم يعرف له أي نشاط عسكري أو سياسي سابقاً. وفي 12 كانون الثاني قامت القوات الخاصة الأميركية المحمولة جواً، وبمساندة قوات بريّة من “قسد” بمداهمة قرية الحوس شرقي الرقة، واعتقال 19 شخصاً. وفي 13 كانون الثاني نفذت إنزالاً في شارع أبو الهيس شرقي مدينة الرقة واعتقلت طبيباً بيطرياً من منزله. وفي ليل 23 كانون الثاني نفذت إنزالاً في قرية السجر شمالي ديرالزور، وقتلت قيادياً في “داعش” من الجنسية العراقية، كان يتخفى هناك برفقة عائلته.
وفي 7 شباط نفذت القوات الأميركية إنزالاً في قرية السحل في الرقة، واعتقلت مسؤولاً أمنياً سابقاً في “داعش”، كان قد أعلن توبته وتمت “تسوية أوضاعه”. وفي اليوم ذاته، نفذت إنزالاً مشابهاً على منزل يقع وسط بلدة الشحيل بريف ديرالزور، واعتقلت 3 اشخاص لم تعرف هوياتهم. وفي 16 شباط نفذت قوات أميركية خاصة محمولة بحوامات، عملية دهم عند الساعة الواحدة ليلاً، لمنزل في بلدة حوايج ذيبان في ريف ديرالزور الشرقي، وقتلت رجلاً كان بداخله، واعتقلت آخر. وفي 17 شباط ذاته نفذت إنزالاً آخراً في حي السياسية في الرقة، واعتقلت رجلاً مجهول الهوية، سكن هناك منذ نحو شهر، وعاش منطوياً على نفسه ولم يعرف جيرانه عنه سوى أن اسمه “أبو محمد”. وفي اليوم التالي نفذت إنزالاً في قرية المحمودلي في ريف الرقة الغربي واعتقلت شخصاً يملك مغسلاً للسيارات، ولا يعرف الجوار الكثير عنه، فهو لا يزاول العمل بنفسه، ويمضي وقته منزله. وفي ليل 21 شباط، قامت قوة خاصة محمولة جواً بمهاجمة منزل منعزل في بلدة الشحيل، يسكنه نازحون من الباغوز كما كان يعرف الأهالي. لكن تبين أن المنزل يقطنه قيادي مهم في “داعش” من الجنسية العراقية، وشخص سوري كان نزيلاً في سجن صيدنايا قبل أن يطلق نظام الأسد الجهاديين المعتقلين لديه.
تذكرنا هذه العمليات بالإنزال الشهير الذي أسفر عنه مقتل أسامة بن لادن، في العام 2011. الأميركيون لن يقوموا بهذه العمليات الخطرة والمكلفة، لاعتقال عنصر هنا أو قيادي بسيط هناك. إذ أن مخاطر هذا النوع من العمليات لا يأتي فقط من خطورة من تستهدفهم، بل أيضا من طابعها الخاطف والدقيق، واحتمال أن ينقلب أي خطأ إلى كارثة كبرى وخسارة باهظة في المعدات والجنود المدربين تدريباً استثنائياً، عدا عن السمعة أيضاً.
مجازفات تستهدف بالتالي “صيداً ثميناً” ما، والبغدادي على رأس المستهدفين ولا شك. وهذا ما أكده خبير الحركات الجهادية عبدالرحمن الحاج، لـ”المدن”، بالقول: “العمليات الأميركية الراهنة تهدف للإمساك بخيوط الشبكة الجهادية، والحصول على معلومات تتعلق بتحركاتها وامتداداتها في العالم، فضلاً عن الوصول إلى قياداتها الفاعلة، لكن هذه العمليات لن تؤدي إلى إنهاء التنظيم الذي نزل تحت الأرض، وإنما ستساعد على إحباط عمليات محتملة له في عواصم الغرب واستهداف قيادته الصلبة”.
تعقّب الاتصالات
ويبدو أن الاتصالات والمراسلات، هي كعب آخيل الذي يصيب قادة التنظيمات الجهادية بمقتل، إذ على الرغم من سيطرتهم على مناطق واسعة، وتجنيد آلاف الاتباع في شبكات أمنية سرية، وامتلاك عشرات المخابئ الآمنة في القرى والاحياء السكنية الشعبية، والخبرة في التنكر والعيش “تحت الأرض”، إلا أن الاتصالات لا غنى عنها، وهي ما يمتلك فيه خصومهم تفوقاً مطلقاً. فقد تم الوصول إلى مخبأ بن لادن، عند اعتراض مكالمة “ملغزة” لأحد المقربين منه، وقادت عبارته القصيرة “لقد عدت إلى الأشخاص الذين كنت أعمل معهم من قبل”، إلى ملاحقته والوصول إلى ذلك المنزل المنعزل في بلدة آبوت آباد، قرب العاصمة الباكستانية.
وقبل ذلك، في العام 2006، تم الوصول إلى “أبو مصعب الزرقاوي” عندما أفاد أحد معاونيه أثناء الاستجواب بأنه يلتقي مستشاره الديني الشيخ عبدالرحمن، كل أسبوع أو عشرة أيام. فأطلق الأميركيون طائرة بلا طيار لمتابعة تحركات الشيخ عبدالرحمن حتى وصوله إلى قرية حبحب، حيث كان الزرقاوي شخصياً في استقباله، وصدرت الأوامر إلى فريق القوات الخاصة بمغادرة بغداد على متن مروحية لاعتقاله، بيد أن الرشاش الخاص بالمروحية أصيب بعطل مفاجئ، فسارع الجنرال ماكريستال إلى استدعاء مقاتلة “إف–16″، ألقت على المنزل قنبلة من زنة 500 كيلوغرام أدت إلى مقتل الزرقاوي.
وبطريقة مشابهة قتل الناطق باسم تنظيم “الدولة الإسلامية” الملقب بـ”أبو محمد العدناني”. إذ أعلنت الولايات المتحدة أن “ضربة دقيقة” نفذّها “التحالف الدولي” استهدفت العدناني أثناء وجوده قرب مدينة الباب في حلب، وفي منطقة لا تشهد أية معارك.
واليوم، تبدو الاتصالات والتواصل هي القاسم المشترك أيضاً بين معظم عمليات الإنزال الأميركية الأخيرة. عملية قرية السجر، تبين أنها حدثت بعد تواصل فتاة إيزيدية، كان يحتفظ بها القيادي العراقي، بذويها عبر الهاتف الفضائي. والشاب الذي تم اعتقاله في الرقة يمتلك جهاز انترنت فضائي. أما من وصف بأنه إعلامي لـ”داعش” فقد تم قتله في بلدة حوايج ذيبان. وتمت مداهمة منزله، بعد يوم واحد من شحن جهاز هاتفه بالوحدات من متجر محلي.
سجون أميركية
معظم من يتم القبض عليهم من أعضاء “داعش”، تتم إحالتهم إلى سجون “قوات سوريا الديموقراطية”، سواء كانوا أجانب أم محليين، وتُعرف أمكنة اعتقالهم والتهم الموجهة إليهم. أما من تعتقلهم القوات الخاصة الأميركية، فيتم اقتيادهم إلى جهة مجهولة، وربما إلى سجن خاص بالاستخبارات الأميركية، ولا يعرف مصيرهم بعد ذلك. ويشير ذلك إلى أهميتهم للتحقيقات، أو خطورتهم بسبب قربهم من قيادات التنظيم، التي تقوم ولا شك بتغيير خططها السريّة، وخريطة تحركاتها كلما قبض على شخص من هؤلاء.
محاصرة الشبكة الجهادية
وربما يشير تسارع هذه العمليات إلى توغل التحقيقات في شبكة العملاء السريين المحيطة بأبي بكر البغدادي، وأعضاء قيادته، وربما أيضا إلى قرب الوصول إليه. لكن الباحث عبدالرحمن الحاج، يقول لـ”المدن”: “التنظيم يمتلك خبرة كبيرة في مجال الأمن المعلوماتي، فهو ورث القاعدة من جهة، ومن جهة ثانية استفاد من خبرات المقاتلين الأجانب الذين تخرجوا من الجامعات الغربية. إضافة إلى ذلك لدى التنظيم خبرة بالبيئة الصحراوية والتخفي فيها وهو يستفيد فيها من عمق علاقاته الاجتماعية في هذه البيئة، التي نشأ فيها، وهي بيئة تعاني من التهميش والاضطهاد الطائفي”. وأضاف: “التنظيم يمكن أن يضعف لكن يصعب أن يزول لأن الأسباب المحفزة لوجوده لا تزال قائمة وربما تضاعفت. الأميركيون يعرفون جيداً هذه الحقيقة، ولهذا باعتقادي هدفهم الرئيس هو إضعاف التنظيم ومحاصرة الشبكة الجهادية”.
من جهة أخرى، لا يبدو إن الانسحاب من سوريا سيحدّ من قدرة الولايات المتحدة على شن هذه العمليات في المدى المنظور. فهي تعيد تمركزها في قاعدة عين الأسد العراقية، التي تتوسط “حوض الجهاديين”، وهي لن تحتاج من دول المنطقة، إلى أي اذن مسبق للتحليق فوق أراضيها لو اقتضى الأمر، فمن المعروف جيداً اليوم أنها قامت بعملية آبوت آباد الشهير، دون اخطار السلطات الباكستانية إطلاقاً.
ريهام منصور/ نقلاً عن المدن