جسر: رأي:
لم يعد هناك أحد، لا من السوريين ولا من الدول العديدة المتورّطة في المحنة السورية أو المعنية بحلها، يجهل أن سوريا تسير بشكل حثيث نحو الانهيار القريب، والغرق في مستنقع من الصعب أن تخرج منه بسهولة، ومن المستحيل أن يستفيد من وصولها إليه أي من الأطراف المشاركة في الصراع، فيها وعليها. ومع أن قلبها لا يزال ينبض، إلا أنها كالمريض المشرف على الموت، توقفت تقريبا جميع وظائف مؤسساتها الحيوية، أو في سبيلها إلى ذلك. لكن كما أثبتت وقائع السنوات التسع الماضية لم يكن أحد من المشاركين في هلاكها يُعنى بالتخفيف عنها أو إرسالها إلى غرفة عناية مشدّدة أو حتى عادية. كان كل طرفٍ ينتظر موتها لينتزع ما يستطيع من أعضائها أو دورها أو مكانتها. وهذا هو الوضع إلى الآن، فلا الأميركيون ولا الإيرانيون ولا الإسرائيليون ولا الأوروبيون والعرب معنيون بإنقاذ ما يمكن إنقاذه منها.
وحدهم الروس يبدون بعض الاهتمام بمآلات الأزمة التي تعيشها، لا حرصا على حقوق الشعب السوري أو وجود سوريا ذاتها، وإنما طمعا في ألا تصبح الرهينة التي اختطفوها عبئا عليهم، بدل أن تكون مصدر إثراء لهم بكل المعاني الاقتصادية والسياسية، فهم يضعون التدخل فيها في سياق المشروع الكبير لإعادة التأهيل الجيوسياسي للاتحاد الروسي على المستويين، الإقليمي والدولي، وفي جميع المستويات، في مواجهة سعي الغرب إلى عزله وتهميشه. وما من شك في أن موت الرهينة سيفشل عملية الاختطاف، وستكون عواقبه وخيمة على مشروعهم هذا، فهو لن يحرمهم من “الفدية” الثمينة المنتظرة فحسب، وإنما سوف يجعل تدخلهم، أكثر من ذلك، نقبا على حجر، مع آثارٍ كارثيةٍ على طموحات بوتين القيصرية. من هنا، ينبع اهتمام موسكو، بعد ربح الحرب، وسعيها إلى فك العزلة السورية، ورفع العقوبات المفروضة عليها، وإعلان نهاية الحرب والعمليات العسكرية.
تتواتر الأنباء عن احتمال أن الروس قبلوا أو أنهم على استعداد للقبول بالتضحية بالأسد من أجل فك العزلة السورية
في هذا السياق، بدأت في الأسابيع القليلة الأخيرة تتواتر الأنباء عن احتمال أن يكون الروس قد بلوا أو أنهم على استعداد للقبول بالتضحية بالأسد من أجل فك العزلة السورية، والفوز أخيرا بالجائزة الإضافية التي لا يزالون ينتظرونها منذ تسع سنوات، أي تكريس دور موسكو قوة كبرى شريكة في تقرير المصائر العالمية، وقيادة عملية إعادة الإعمار التي تكتسب قيمةً استثنائية اليوم في سياق الجائحة الصحية وآثارها الاقتصادية الكارثية. ومما عزّز من الاعتقاد بصحة هذه الأخبار أنها انطلقت بالأصل من الصحافة والمؤسسات العلمية السياسية الروسية، قبل أن تصبح موضوعا للتداول في الصحافة المعارضة السورية، ثم في الصحافة العالمية بأكملها.
(2)
لكن إذا كان من مصلحة الروس، حتى لا يكونوا الخاسر الأكبر من الحرب السورية المتعدّدة الأطراف والرهانات، البحث عن مخرج، ومخرج “مشرّف” يضمن لهم تحقيق رهاناتهم الرئيسية، للأزمة السورية، قبل أن تنفجر كالدمل المتقيح في وجوههم، ويفقدوا كل شيء، إلا أنني لا أعتقد أنهم وجدوا السبيل السالك والسليم للوصول إلى أهدافهم بعد. وما كان يحول منذ سنوات دون التوصل إلى حل لما أصبحت تسمّى الأزمة السورية لم يتغير، أعني التوصل إلى تسويةٍ ترضي جميع الفرقاء، وتحقق للمشاركين الإقليميين والدوليين جزءا مهما أو أساسيا من رهاناتهم، ولا يبدو كذلك أنهم نجحوا في وضع قاعدةٍ مقبولةٍ لتقاسم الغنيمة فيما بينهم، فما الذي تغير إذن، حتى تبدو الأمور أكثر قربا من الحل مما كانت عليه في السابق؟
أعتقد أن ما يثير الأمل عند السوريين اليوم هو ما يبدو من تغيّر في المقاربة الروسية بخصوص الحل السياسي، أو التسوية التي تعنى بالتوفيق بين مصالح الدول المعنية والمشاركة لا بالمصالح السورية، حتى لو أنها يمكن أن تنعكس بفوائد جانبية عليهم، فحتى وقت قريب، وخلال السنوات التسع الماضية سعى الروس إلى أن يجعلوا من إشراك بعض الدول في القضاء على الثورة الشعبية عربونا لإقامة حلف دولي جديد مناوئ للهيمنة الغربية التي أظهرت ضعفا لافتا، وبدت مترنّحة في العقدين الأخيرين. وكان جوهر عمل هذا الحلف الجديد الذي ضم روسيا وإيران والصين ومجموعة البريكس فرض الأمر الواقع على المجتمع الدولي عموما في سوريا، من خلال التمسّك بمبدأ عدم السماح بتغيير الأنظمة القائمة بالقوة، شعبيةً كانت هذه القوة أم عسكرية، مستفيدا من الإخفاقات التي شهدتها التدخلات العسكرية السابقة في أفغانستان والعراق وليبيا. ومن هنا، أصبح الدفاع عن وجود الأسد وشرعية حكمه، نوعا من التابو أو المحرّم الذي لا ينبغي لأحد أن يمسّه، والنظر إلى الجهود التي تهدف إلى تغيير نظامه، بالقوة أو بالحوار والتفاوض، تعبيرا عن المؤامرة “الكونية” التي يحيكها الغرب لتقويض سيادة الدول واستقلالها واستقرار النظام الدولي القائم.
لا يزال من المبكر لنا أن “نضع أقدامنا في ماء بارد”، أو كما كانت تقول بثينة شعبان “خلصت”
هكذا لم يعد الأسد ذاك الرئيس الصغير الأحمق الذي يدفع ببلاده نحو الكارثة، وإنما حجر الرحى في استراتيجية دولية شاملة، تريد أن تفرض نفسها في مواجهة استراتيجية السيطرة الغربية، والأميركية خصوصا، التي تستسهل تغيير النظم والرؤساء وتقود عملياته. ومن هذا المنطلق، وضعت موسكو وبكين، العضوان الدائمان في مجلس الأمن، نفسيهما في خدمة الدفاع عن الأسد ورد الهجوم عليه من أي طرف جاء، وشل مجلس الأمن وتحييد منظمة الأمم المتحدة في المسألة السورية كليا، وتسويد صفحة الحراك الشعبي السوري، وخلطه بالتآمر الغربي والإرهاب والطائفية، تماما كما كانت تردد آلة الأسد الإعلامية والسياسية. وهكذا عطلت جميع المبادرات الدولية والداخلية، ولم يقبل لا حوار في الداخل، ولا تفاوض مع المعارضة، ولا من باب أولى الاعتراف بالفصائل المسلحة بوصفها جزءا من المعارضة، وتم تعطيل القرارات الدولية علنا وجمعا، حتى وصل الأمر إلى عدم السماح للجنة التحقيق الدولية حول استخدام الأسلحة الكيميائية في سوريا في البحث عن المسؤولين عن جريمة الحرب السافرة هذه. هكذا تحول شعار الأسد أو نحرق البلد من شعار “سوري” لأنصار الأسد والنظام إلى شعار روسي: تثبيت الأسد أو نحرق البلد.
لكن صمود السوريين البطولي خلال السنوات التسع الماضية، وإصرارهم على إسقاط النظام، مهما عظم الثمن، ونجاحهم في تحطيم آلته الحربية بالفعل من جهة، وتمسّك الأمم المتحدة بقرارات مجلس الأمن الداعية إلى حل سياسي، وتسوية تقوم على حوار ومفاوضات بين السوريين أنفسهم، من جهة ثانية، والتزام أكثر الدول بالعقوبات التي أقرّها مجلس الأمن على الدول الثلاث، ورفضهم التسليم بالأمر الواقع والتغطية على مسؤولية جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها مليشيات النظام، لم يترك للروس وحلفائهم أي أملٍ في إعادة بث الحياة في نظامٍ يتهاوى، ويأكل بعضه بعضا. ولا شك في أن أولوية معركة روسيا للتموضع الجيوستراتيجي العالمي قد تراجعت إلى الصف الثاني أمام مواجهة الأزمة الصحية والاقتصادية والمالية التي تفاقمت بانتشار وباء كورونا، والتي زادت من أهمية التعاون والتفاهم الدوليين في حل المشكلات الكونية الطارئة. هكذا وجد الروس أنفسهم أمام خيارين: تغيير مقاربتهم للتسوية الدولية حول سوريا، أو المغامرة بالغرق في مستنقع الحرب والفوضى المعمّمة في سوريا وخسارة رهاناتهم.
من الممكن معاينة هذا التغير في تبدل الأولويات والتحالفات الروسية في الأشهر القليلة الماضية، فعلى غير عادتهم، أيد الروس تثبيت وقف إطلاق النار في الشمال السوري، ضد رغبة طهران ودمشق، كما أبدوا استعدادا واضحا للتعاون مع واشنطن، أتاح لهم إقامة قواعد عسكرية لهم لأول مرة شرق الفرات. ويمكن القول إن الروس اليوم أقرب إلى أنقرة والتعاون معها في سوريا منهم إلى إيران التي لم يخفوا تفاهمهم مع إسرائيل على تقليم أظافرها. وفي سياق البحث هذا عن تسويةٍ تضمن لهم مصالح الدولة المنتدبة في سوريا، تبدلت تصريحات المسؤولين الروس بخصوص الحوار والتفاوض، وتكاد تصريحات لافروف العدوانية والاستفزازية للأميركيين والثوار السوريين معا، تختفي أمام تسريبات الصحافة الروسية والإشارات التي لا تخطئ إلى استعداد موسكو للتفاوض على رئاسة الأسد. وفي كل الحسابات، لم يعد لبقاء الأسد أو ذهابه المعنى نفسه لدى الروس اليوم، وحتى لدى الأطراف الأخرى، بما فيها السوريون، فالجو السائد يشير إلى تهيؤ الجميع للخروج من الحقبة الماضية السائرة نحو التعفن، بكل ما كانت تمثله من مؤسسات، وفي مقدمها مؤسسة الرئاسة السورية، وما تحمله من معاني. أصبح الأسد منذ الآن، قبل أن يترك منصبه، وفي نظر جميع الأطراف، من الماضي.
أولوية معركة روسيا للتموضع الجيوستراتيجي العالمي قد تراجعت إلى الصف الثاني أمام مواجهة الأزمة الصحية والاقتصادية والمالية التي تفاقمت بانتشار وباء كورونا
(3)
ما تغير إذن في الأشهر الأخيرة، وهو مهم في مسار تطور البحث عن حل للمقتلة السورية، هو خلي روسيا عن المقاربة السياسية التي تقوم على التمسّك بأي ثمن بالأسد لتحييد التدخلات الدولية الموازية أو المضادة، وإحكام الطوق على الرهينة، وتعزيز الحلف الثلاثي الذي ضمن اختطافها، والبحث عن مقاربةٍ جديدةٍ لا تعتبر الحفاظ على الأسد، وبالتالي الدفاع عن شرعية حكمه وإعادة تأهيله شرطا للحل السياسي المحتمل، أو حتى جزءا منه. وما من شك أن هذا التغيير في المقاربة الروسية التي عبرت عنه التسريبات الصحافية من جهة، ومنه تغير أسلوب التعامل مع الأسد نفسه، وآخر معالمه البارزة تعيين ممثل شخصي للرئيس بوتين في سوريا، يمكن أن يقوم بدور الوصاية على الأسد وشلته الحاكمة نفسها، أكثر منه دور وصاية على سوريا، يفتح فرصا جديدة للنقاش والحوار مع الأطراف الأخرى، لأنه يترك للجميع، بمن فيهم السوريون أنفسهم، هامش حركةٍ يمكن السعي فيه إلى تطوير أفكار واقتراحات للحل، أو حتى توسيع هامش الحركة هذا، وربما إنتاج صيغ مبدعة جديدة غير صيغة فرض الأمر الواقع التي سادت حتى وقت قريب. وهو يضمر أيضا تخفيضا في مستوى طموح موسكو بقيادة تحالف دولي مضاد للتحالف الغربي، بمقدار ما يلزمها بتقديم التعاون والتنسيق مع الولايات المتحدة على ترسيخ التحالف والتضامن مع إيران وأعداء واشنطن في سوريا والمنطقة المشرقية. ولهذا، تبدو تصريحات المسؤولين الأميركيين أكثر إيجابية بكثير مما كانت عليه تجاه الروس، حتى وصل الأمر بجيمس جيفري، إلى القول إن جميع القوى الأجنبية سوف تخرج من سوريا بعد التسوية، بما فيها القوات الأميركية، ولن يبقى فيها سوى القوات الروسية. وما من شك في أن وقف إطلاق النار الذي تحقق في الأشهر القليلة الماضية في شمال غربي البلاد، بالتفاهم مع أنقرة، كان ثمرة هذا التعاون الروسي الأميركي ولو أن أنقرة كانت الموقعة والمشرفة عليه. فتركيا تبقى في المحصلة، على الرغم من خلافاتها في الحسابات الاستراتيجية العالمية مع الغرب، شريكة له إن لم تكن جزءا منه.
ليس الأسد نفسه سوى السدادة التي ما إن تنتزع من مكانها حتى تنفر إلى السطح مياه المجارير القذرة المتراكمة منذ عقود
هكذا بعد أن كان الإصرار على وجود الأسد الورقة الرابحة في يد موسكو خلال السنوات التسع لماضية. وبالتلويح الدائم بها، والإصرار على تأكيد شرعية الأسد وحقه في البقاء في السلطة، وترشيح نفسه لأي ولايةٍ قادمة، عطلت روسيا قرارات الأمم المتحدة جميعا، ومعها أي تسوية سياسية في سوريا، وبقاء الأسد يعني استمرار نظامه، أصبح الآن التخلي عن الأسد، أو الإعلان عن الاستعداد للتخلي عنه، هو الورقة الأهم في الاستراتيجية الروسية للخروج من المستنقع السوري الآسن. وربما يصبح بعد فترة، إذا لم تنجح في تسويق ترحيله، إلى عبء مكلف وعقبة في طريق التوصل إلى تسوية روسية دولية، بدل أن يكون ورقة ضغط رابحة.
هل يعني ذلك أن الأمور استوت، كما نقول بالعامية، وإن طبخة التسوية للحرب السورية الإقليمية والدولية قد وضعت على نار حامية، ولم يبق لنا إلا انتظار الحل؟
سوف أحاول في مقال قادم أن أقول لماذا لا يزال من المبكر لنا أن “نضع أقدامنا في ماء بارد”، أو تردد كما كانت تفعل بثينة شعبان “خلصت”، فلا يكفي الاستعداد الروسي للبحث في حل، حتى يصبح الحل جاهزا. ينبغي أن نعرف فيما إذا طرأت تغيرات إيجابية أيضا في هذا السياق على مقاربات الأطراف الأخرى، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد الأوروبي وإسرائيل وتركيا وإيران، وما هي مشاريعها المقبلة لسوريا، وهل تتفق مع الرؤية الروسية لما بعد الأسد، وهل لديها الاستعداد للمساهمة في بناء “السلام الروسي” في سوريا. ثم إنه لا ينبغي علينا الاستهتار بالإرث الثقيل الكارثي لحكم الأسد الطويل، فليس الأسد نفسه سوى السدادة التي ما إن تنتزع من مكانها حتى تنفر إلى السطح مياه المجارير القذرة المتراكمة منذ عقود، وتفوح الروائح الكريهة الصعبة الاحتمال. وما لم يكن لدى موسكو الاستعداد والوسائل لمعالجة هذه المياه القذرة، والكثير من المعقمات والكمّامات، سوف تجد نفسها غارقةً، من رأسها حتى أخمص قدميها، في مستنقعها الآسن. لكن ما هو أهم من ذلك هو تلمس فيما إذا كان تغيّر المقاربة الروسية يفتح للمعارضة والنشطاء السوريين آفاقا ما لاستعادة روح العمل والمبادرة.
___________________________________________________________________________________
*نشر في العربي الجديد السبت 30 أيار/مايو 2020، للقراءة في المصدر اضغط هنا