عمر كوش
تشي التصريحات التي أطلقها أخيراً الرئيس التركي رجب طيب أردوغان عن استعدادات بلاده لاتخاذ خطوات لازمة لاستكمال إنشاء منطقة آمنة في الشمال السوري، باقتراب قيام تركيا بعملية عسكرية جديدة في مناطق وجود “قوات سوريا الديمقراطية”، التي تشكّل “وحدات حماية الشعب” الكردية عمادها الأساسي، خصوصاً بعد أن أعطى مجلس الأمن القومي الضوء الأخضر للقيام بها، باعتبارها ضرورة للأمن القومي التركي، إضافة إلى بدء إرسال تعزيزات عسكرية تركية إلى بعض مناطق الشمال السوري.
وإذا كانت المساعي والمحاولات التركية السابقة لإقامة منطقة آمنة على الحدود الجنوبية لتركيا، وبعمق 30 كيلومتراً داخل الأراضي السورية، لم تلق آذاناً صاغية من القوى الدولية المتدخلة في الشأن السوري، وخصوصاً من الساسة الروس والأميركيين، إلا أنها ترتبط، هذه المرّة، بجملة من العوامل الخارجية والداخلية التي يجدها الساسة الأتراك مناسبة لتحقيق مساعيهم، وذلك في ظل المتغيرات والتداعيات الدولية الكثيرة التي حملها الغزو الروسي لأوكرانيا.
وتفيد تقارير وسائل الإعلام التركية بأن الأهداف المحتملة للعملية العسكرية التركية ستشمل مناطق تسيطر عليها “قوات سورية الديمقراطية” في كلٍّ من مدينة تل رفعت ومنبج وعين العرب (كوباني) وعين عيسى، وذلك استناداً إلى تصريح أردوغان أن العملية ستبدأ “بمجرّد انتهاء تحضيرات الجيش والاستخبارات والأمن”، مشيراً إلى أن “المناطق التي تعدّ مركز انطلاق للهجمات على تركيا والمناطق الآمنة ستكون في مقدمة أولويات العمليات العسكرية”، حيث تعدّ تل رفعت المدينة الأهم في العملية المرتقبة، كونها تستخدم من “قوات سوريا الديمقراطية” نقطة انطلاق الهجمات على مناطق وجود قوات تركية في عفرين وإعزاز وجرابلس، في حين أن عين العرب تُعد مركزاً لهجماتها على النقاط الحدودية التركية وعلى مناطق وجود “الجيش الوطني” السوري، الأمر الذي يرجّح ألا تشمل العملية العسكرية المحتملة مناطق الحسكة والقامشلي، بالنظر إلى أن كلّاً من الولايات المتحدة وروسيا سبق أن عارضتا توسع عملية “نبع السلام” التي قامت بها تركيا في أكتوبر/ تشرين الأول من عام 2019 بضوء أخضر أميركي وغضّ نظر روسي، وسيطرت خلالها على المنطقة من تل أبيض إلى رأس العين.
ويبدو أن الساسة الأتراك يراهنون على حاجة كل من روسيا والولايات المتحدة إلى الموقف التركي، إذ يدرك الساسة الروس الغارقون في إرهاصات غزو جيشهم أوكرانيا أهمية دور تركيا، التي لم تتخذ مواقف دول حلف شمال الأطلسي (الناتو) نفسها ضد بلادهم، كما أنها لم تنخرط في فرض العقوبات الغربية عليها، فيما تخشى دول حلف الناتو من اعتراض تركيا على انضمام كل من السويد وفنلندا إلى الحلف، وذلك بسبب علاقات البلدين مع وحدات حماية الشعب الكردية التي تصنّفها تركيا منظمة إرهابية، مثل حزب العمال الكردستاني التركي، إضافة إلى حظرهما مبيعات الأسلحة لتركيا بسبب قيامها بعملية نبع السلام، لكن البلدين باتا بحاجة ماسّة إلى موافقتها للانضمام إلى حلف الناتو، وبالتالي باتت تركيا تمتلك أوراق ضغط سياسية مهمة على كل من دول “الناتو” وروسيا، الأمر الذي تسعى إلى استغلاله من أجل الحصول على تفاهماتٍ معها، بغية بلوغ مسعاها في القيام بعملة عسكرية جديدة في الشمال السوري، وإقامة منطقةٍ آمنة فيه، والتي أضحت مطروحة بقوة على طاولة المفاوضات.
وكالعادة، لم يصدر أي تعليق رسمي من ساسة الكرملين على تصريحات الرئيس أردوغان بشأن العملية العسكرية والمنطقة الآمنة، فيما ذهبت الخارجية الأميركية إلى التعبير عن قلقها الشديد إزاء تصريحاته، مع تأييدها “الإبقاء على خطوط وقف إطلاق النار الراهنة”، وإدانة “أي تصعيد”، لكن ذلك لا يعني أن تركيا ستشنّ عملية عسكرية جديدة من دون أن تمهّد لها من خلال الاتصالات مع الأطراف الدولية المتدخلة في القضية السورية، خصوصاً أن مسألة التعاون الأميركي مع “قوات سورية الديمقراطية” طرحت خلال لقاء وزير الخارجية التركي مولود جاويش أوغلو ونظيره الأميركي أنتوني بلينكن، وذلك في إطار الاجتماع الأول للآلية الاستراتيجية لحل الخلافات العالقة بين البلدين، في نيويورك في 18 مايو/ أيار الجاري.
ويجادل الساسة الأتراك بأن كلّاً من الولايات المتحدة وروسيا لم تفيا بوعودهما التي نصّت عليها التفاهمات التي أُبرمت بعد وقف عملية “نبع السلام”، والقاضية بإبعاد “قوات سورية الديمقراطية” مسافة 30 كيلومتراً من الحدود الجنوبية لتركيا، لمنع أي هجماتٍ تستهدف تركيا انطلاقاً من مناطق سيطرتها، لكن الاشتباكات والمناوشات استمرّت، ولم يتوقف التصعيد من الجانبين من وقت إلى آخر.
ولا يرتكز همّ تركيا على زيادة مساحة نفوذها في سورية، بل في منع قيام أي كيان كردي معادٍ لها على حدودها الجنوبية، وتقطيع أوصال المناطق التي يسيطر عليها حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي ومخرجاته في الشمال السوري، إضافة إلى أن قادة حزب العدالة والتنمية الحاكم لديهم حسابات داخلية، تتعلق بالتحضيرات والاستعدادات لخوض الانتخابات الرئاسية والبرلمانية المقبلة في يونيو/ حزيران من العام المقبل، حيث تبرز ورقة اللاجئين السوريين بوصفها الورقة الأهم فيها الحملات التحضيرية للانتخابات، وبالتالي، تريد حكومة حزب العدالة والتنمية سحب ورقة اللاجئين السوريين من سوق التداول في البازار الانتخابي من أحزاب المعارضة التركية، وإقامة منطقة آمنة لإعادة مليون لاجئ إليها، بعد بناء مساكن ومرافق فيها، ضمن تنفيذ ما تسميها خطة “العودة الطوعية”. ولذلك أكد الوزير جاويش أوغلو، خلال مشاركته بمنتدى مراجعة الهجرة الدولي، أن بلاده بنت أكثر من 57 ألف منزل في شمال سورية، وأن هدفها هو بناء مائة ألف منزل مع نهاية العام الجاري.
وفي مطلق الأحوال، لن يوقف الساسة الأتراك مساعيهم ومحاولاتهم لإقامة منطقة آمنة في الشمال السوري، لكنهم قد لا يحقّقون كل ما يرغبون به، خصوصاً أن العملية العسكرية التي ينوون القيام بها في الشمال السوري بحاجة إلى تفاهمات مع كل الأطراف المتدخلة بالشأن السوري. وربما تكون الظروف مناسبة لقيامهم بممارسة ضغوط وإجراء مقايضات مع القوى الدولية، لكن الأمر رهن بحسابات المصالح الدولية، فيما يبقى السوريون الخاسر الأكبر في تلك الحسابات، بوصفهم هم من يدفعون الثمن.
المصدر: العربي الجديد