جسر – صحافة
في مقابلة مع برنامج “أجندة” (Agenda)) الذي يبثه التلفزيون السويدي العام، أكد وزير خارجية الولايات المتحدة، أنتوني بلينكن، قبل أيام، وعلى هامش مشاركته في اجتماع منظمة الأمن والتعاون في أوروبا الذي انعقد في أرلاندا (السويد)، أخيراً، أنّ بلاده لن تقبل بأي تدخل روسي في أوكرانيا؛ وذلك بعد ظهور دلائل عدة توحي بوجود مثل هذا التوجّه لدى الروس، بغية فرض الأمر الواقع، كما فعلوا في شبه جزيرة القرم التي تعرّضت بداية للغزو العسكري عام 2014، وألحقت بالسيادة الروسية، بعد استفتاء شكلي هندسته روسيا، وأعلنت على إثره أن غالبية السكان هناك موافقة على الانضمام إليها. ومن مؤشّراتٍ تنذر بغزو روسي جديد لأوكرانيا، وفق تقديرات الجانب الأميركي، حشد القوات والمعدات العسكرية على الحدود الروسية الأوكرانية، والحملات التعبوية على وسائل التواصل الاجتماعي، وجهود زعزعة الاستقرار في الداخل الأوكراني.
وحينما سئل بلينكن عن الخيارات التي يمكن أن تلجأ إليها الولايات المتحدة وحلفاؤها في حال حدوث الغزو الروسي لأوكرانيا، شدّد على العقوبات الاقتصادية القاسية؛ ولكن من دون أن يستبعد البدائل الأخرى التي تركها مفتوحةً على مختلف الاحتمالات. وهي التي يمكن أن تكون من خلال زيادة الوجود العسكري في أوروبا الشرقية، أو الدعم العسكري للحكومة الأوكرانية؛ وحتى في صيغة مناورات عسكرية أطلسية كالتي كانت في البحر الأسود، أو اجتماعات أطلسية كالذي انعقد في ريغا، عاصمة ليتوانيا التي كانت إلى وقت قريب جزءاً من الاتحاد السوفييتي السابق. لكنّ روسيا تعلن صراحة أنها لن تقبل أبداً بأي امتداد للحلف الأطلسي، يصل إلى حدودها ليشمل أوكرانيا، فهي تعتبر هذه الأخيرة ضمن نواة مشروعها الأوراسي الذي ينظّر له كثيراً ألكسندر دوغين، المقرّب من الرئيس الروسي بوتين، تحت اسم النظرية الرابعة، في إشارة إلى معارضتها النازية والماركسية والليبرالية.
للأوروبيين مخاوفهم المشروعة من تطورات الملف الأوكراني، خصوصاً في منطقة دونباس، وانعكاساته على أوضاعهم الداخلية
وما يثير المزيد من المخاوف لدى الروس أنّ بلادهم تعاني من جملة تحدّيات كبرى على المستويين، الداخلي والدولي؛ ولعل من أبرز التحدّيات الداخلية تراجع عدد سكان روسيا سنوياً في حدود نصف مليون نسمة، الأمر الذي ينذر بعواقب وخيمة مستقبلاً، ما لم تتخذ إجراءات مناسبة تشجع الناس على الإنجاب، فعدد السكان الحالي لروسيا هو نحو 145 مليون نسمة، يعيشون في مساحة جغرافية واسعة تتجاوز 17 مليون كيلومتر مربع. ومن المتوقع أن يتراجع هذا العدد إلى نحو 135 مليوناً في حدود عام 2040. كما أنّ طبيعة نظام الحكم، وتخلّف مستوى التقدم الاقتصادي، والفساد، والقيود المفروضة على حريات التعبير، كلّ هذه الأمور وغيرها من العوامل الطاردة التي لا تساهم في جذب المهاجرين، بل تدفع مواطني روسيا أنفسهم نحو الهجرة، إذا ما توفرت لهم الفرص المناسبة.
وإلى جانب الأميركان والروس، للأوروبيين أيضاً مخاوفهم المشروعة من تطورات الملف الأوكراني، خصوصاً في منطقة دونباس، وانعكاساته على أوضاعهم الداخلية، سيما بعد تنامي التيارات الشعبوية اليمينية والعنصرية التي تمثل خطراً على القيم الديمقراطية في أوروبا والغرب عموماً، وهي التيارات التي انتعشت كثيراً في عهد دونالد ترامب الذي أفسد العلاقة مع الأوروبيين، ودفعهم نحو التفكير الجاد في بناء قوة حماية ذاتية، تحسّباً لاحتمالات المستقبل. هذا في حين أنّ الأمور قد تغيرت في عهد جو بايدن الذي شدّد مجدّداً على أهمية التحالف الاستراتيجي مع أوروبا. ويبدو أنّ الموقف المشترك من الموضوع الأوكراني يعد اليوم أساساً لتعزيز ذاك التحالف والتأكد من مصداقيته. ويشار في هذا السياق إلى مطالبة الدول الغربية في القمة الهاتفية التي تمت في إطار مجموعة “كوينت”، المجموعة الأطلسية المصغرة التي تجمع بين كلّ من الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا وإيطاليا، أهمية احترام سيادة أوكرانيا. ودعوتها روسيا إلى الدخول في مفاوضات مع أوكرانيا ضمن إطار رباعية النورماندي التي تجمع بين كل من روسيا وأوكرانيا وفرنسا وألمانيا.
واللافت أنّ قمة كوينت الخماسية جاءت عشية القمة الافتراضية بين الرئيسين، الأميركي بايدن والروسي بوتين، والتي استمع فيها كلّ طرف إلى مطالب الطرف الآخر وهواجسه، إلّا أنّ الأمر الذي استوقف المتابعين والمحللين أكثر من غيره، بعد انتهاء القمة، تمثل في التقييم المتضارب لنتائجها من كل طرف، فبينما وجد فيها الروس فرصة لتناول القضايا المطروحة بانفتاحية وحرفية؛ جاء التقييم الأميركي لها حذراً، ومبيناً، في الوقت ذاته، ضرورة انتظار المباحثات التي ستجري بين المسؤولين من البلدين، لدراسة الموضوعات بصورة أعمق، والعمل على بلورة المشترك الذي يمكن البناء عليه.
وفي مواجهة الضغوط الغربية في أوروبا، تحاول روسيا تعزيز مواقعها في أماكن أخرى من العالم، سيما في آسيا، ولعلّ الإعلان عن تسليم أول دفعة من صواريخ إس 400 إلى الهند قبل أيام من قمة بايدن – بوتين من الخطوات على هذا الطريق، كما أنّ إعلان وزير خارجية روسيا، سيرغي لافروف، عن عقد اجتماع جديد لدول محور أستانة في نور سلطان، عاصمة كازاخستان، هو الآخر، يأتي في سياق المساعي الروسية إلى امتلاك مزيد من الأوراق استعداداً لأية صفقة مستقبلية محتملة مع الولايات المتحدة، سواء في الشرق الأوسط أم في أوكرانيا أو في الشرق الأقصى أو في أماكن أخرى.
تعاني منطقتنا من انسداداتٍ تبدو مستعصية على الحل، خصوصا إذا اعتُمدت المقاربات ذاتها
وقد كان وزير الخارجية الأميركي، بلينكن، واضحاً في مقابلته مع التلفزيون السويدي المشار إليها، من جهة استعداد بلاده للتفاهم مع الروس بشأن مسائل أخرى، مبينا أنّه كان صريحاً مع لافروف، في لقائهما الذي تم في السويد. وعلى الأغلب سيكون الموضوع السوري من بين هذه المسائل التي يمكن التفاهم حولها. وهناك بوادر في هذا المجال، منها: السماح بمشروع أنبوب الغاز بين مصر ولبنان عبر الأردن، والموافقة على تنفيذ بعض المشاريع في مناطق حكم بشار الأسد تحت مسمّى “التعافي المبكر”، وعدم اتخاذ موقف رافض حازم من خطوات التطبيع مع سلطة بشار التي أقدمت عليها بعض الدول العربية، أو تعلن عن نيتها في الإقدام عليها. بالإضافة إلى اللقاءات التي جرت، وتجرى بين مسؤولي حزب العمال الكردستاني عبر واجهاته في سورية، خصوصاً قوات سوريا الديمقراطية (قسد)، والمسؤولين الروس، وهي لقاءاتٌ متكاملةٌ مع التي كانت بين الواجهات المعنية والمسؤولين الأمنيين في حكم بشار الأسد في دمشق، وهي لقاءاتٌ لم يكن لها أن تتم لولا التفاهم الأميركي الروسي في سورية، وحرص الطرفين على مراعاة الاعتبارات الأمنية الإسرائيلية. وربما نشهد مستقبلاً تفاهمات تركية – روسية – أميركية بشأن الأوضاع في الشمال الغربي، ومنطقة إدلب تحديداً. لكنّ ذلك كله يتوقف على الخطوات الروسية التالية في أوكرانيا.
وفي انتظار تبلور ملامح توافق أميركي – روسي حول الموضوعين الأوكراني والسوري، يُطرح سؤال مشروع حول مستقبل العلاقات بين دول منطقتنا… هل ستتمكن هذه الدول من حلّ مشكلاتها البينية، وتساهم في حل الأزمات الإقليمية، حتى تتمكّن من الاستثمار في مواردها المادية والبشرية، بهدف تحقيق تنمية مستدامة، تضمن مزيداً من فرص التعليم والعمل لشبابها وأجيالها المقبلة، وتقطع بذلك الطريق على مشكلات اجتماعية وأمنية كثيرة، وفي مقدمتها الفقر والتطرّف والإرهاب؟ أم أنّها ستستمر موضوعاً أو مادة لسياسات القوى الكبرى المتنافسة، وتتوزع مجدّداً بين المحاور المتباينة، ليتم استنزافها مالياً عبر دفع الإتاوات، وصفقات شراء أسلحة حديثة لن تستخدمها على الأغلب؟ تعاني منطقتنا من انسداداتٍ تبدو مستعصية على الحل، خصوصا إذا اعتُمدت المقاربات ذاتها، وهي انسداداتٌ تسببت فيها إيران بالدرجة الأولى، لكن لم يكن لهذه الأخيرة أن تفعل ما فعلته، لولا سياسة التساهل وغضّ المجتمع الدولي النظر معها.
الأوروبيون على دراية كاملة، بناء على تاريخ صراعاتهم مع الروس، بأهمية العوامل الجيوبوليتيكية التي تتحكّم بعلاقاتهم مع الروس
لموضوع أوكرانيا علاقة بالأمن الأوروبي، والرغبة في الحصول على ضماناتٍ تؤكد أنّ روسيا لن تتحوّل مجدّداً إلى قوة تهدّد أوروبا الغربية التي ستظل الحليف الاستراتيجي المركزي للولايات المتحدة في أي نظام عالمي جديد ثنائي أو متعدّد الأقطاب. والأوروبيون على دراية كاملة، بناء على تاريخ صراعاتهم مع الروس، بأهمية العوامل الجيوبوليتيكية التي تتحكّم بعلاقاتهم مع الروس، وهذا ما يدفع بهم إلى أخذ جانب الحذر والحيطة باستمرار، خصوصاً بعدما تمكّنت روسيا من العودة إلى موقع القوة العظمى من خلال البوابة السورية؛ وهي اليوم تتوسّع في تدخلاتها وعلاقاتها وبناء التحالفات مع الأنظمة الاستبدادية وشبه الاستبدادية والديمقراطيات الهشّة في الشرق الأوسط وأفريقيا وآسيا وأميركا اللاتينية.
والاحتمال الأكبر في هذا السياق أن تسعى الولايات المتحدة مع حلفائها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وأوروبا لممارسة مزيد من الضغوط على روسيا، على أمل دفعها نحو القبول بتوافقاتٍ ملموسة قابلة للاستمرار مع الأوكرانيين، خصوصاً في منطقة دونباس لكبح جماح التوتر. وليس مستبعداً في هذا المجال أن تنضم أميركا نفسها إلى مجموعة النورماندي، بعد تفعيلها، وإعادة النظر في دورها وقواعدها المنظّمة بموجب المتغيرات المستجدة.
أما انعكاسات مثل هذا التوافق المحتمل على الوضع السوري، فهي قد تتشخّص في إطلاق يد الروس في سورية، وذلك مقابل التزامهم بطمأنة إسرائيل ومراعاة حساباتها الأمنية.
المصدر: العربي الجديد