جسر: رأي:
أجلس بهدوء أمام شاشة حاسوبي الباردة، أحاول الكتابة عما يحدث من هجمات “إرهابية إسلامية” في فرنسا، ويسود الصمت، أناقش جدوى الكلام أو بالأحرى جدوى الرد على الكلام، جدوى دحض مسؤوليتنا عن هذه الأفعال المجرمة كشعوب تحمل في تكوينها هوية الإسلام، أمشي في شوارع فرنسا وأرى مسلمين في كل مكان، متدينين منهم وغير متدينين، ما يشير إليهم معالم وجوههم السمراء الشرقية وإن لم يكونوا مسلمين، وفي هذا إشارة بالضرورة إلى الصورة النمطية بتأثير الإسلام على ثقافة كل من لوّحته الشمس كمنتج ثقافي لأدبياته، وإشارة أيضاً إلى الورطة التي يعيشها سكان المنطقة الشرق أوسطية، بالإجبار على التفاعل مع حدث يرفضونه حتى لو كانوا بعيدين أو جاهلين بأصوله الفكرية، لكنه إجبار تبرئة واستنكار عام ومطلوب قبل أي نقاش، بعد الهجمات صار الموضوع التعبوي الرئيسي في الإعلام -رغم جائحة (كوفيد 19) والتي شلت الحركة البشرية والتجارية للبلاد- الإرهاب الإسلامي والتصدي له، والتصدي لخطاب الكراهية والعنف لنشر قيم التسامح العلمانية وحرية التعبير المطلقة، يتفضّل علينا بعض الأصدقاء اليساريين الطيبين بدعاية مضادة مشابهة لدعايتنا، أن الدين الإسلامي بريء من هذه الأفعال المريعة وأنها أعمال فردية لمتطرفين. لكن إلى أي مدى نستطيع تبرير العنف وتفسيره ضمن سرديات المظلومية وما بعد الاستعمار، أو فهمه كردة فعل تستوعب الخطاب الذي أسس للعنف في ظل مجتمعات نشأت على تحريم الحوار في الشريعة إلا من نقاشات حول العبادات اليومية وترك أدبيات جهادية أسست لها سياسات ثلاثة عقود ماضية لتتكئ عليها المجتمعات الإسلامية وتنغلق حولها كهوية جامدة ومخلصة من البؤس الذي تعيشه.
مع حرب أفغانستان وظهور حركة طالبان بدأت دعاية الإرهاب الدولية، تكرّست بشكلها الأيقوني مع حادثة برجي التجارة، استمدّ الجهاديون تقنياتهم الدعائية بلا شك من جذور دينية؛ أي استخدام آيات قرآنية وتراث ديني لتحفيز العنف والتكفير في النضال ضد الاحتلال الروسي ثم الأمريكي، تركز ذلك في الأناشيد ومحاضرات التسجيل الصوتية والصحف الدورية التي بدأت بالصدور عن تنظيم القاعدة، وارتبط الخطاب الديني الإسلامي بأخبار المعارك وقطع الرؤوس، لم يوظَف هذا التراث الديني الهائل بهذا الشكل من قبل ليظهر العنف وخطاب الترهيب كمعرّف لحركة إسلامية مسلّحة، وكمعرّف للدين الإسلامي في الإعلام العالمي، جرت عملية دقيقة من تمحيص ونبش وتدقيق واقتطاع، لرسم خطاب ديني يبشر بإسلام جهادي سني عنيف وجديد، “إرهابي” بالمفهوم الدولي وبمفهوم الحركات الجهادية أيضاً “ترهبون به عدو الله وعدوكم”، كانت هذه الصورة تسير في توازي مع تقبّل مجتمعات إسلامية لهذا النوع من الخطاب العنيف واستيعابه كأداة غضب ودفاع عن النفس وتحرر إنساني على الصعيد الأول، أدّت الدعاية إلى جذب الكثير من الشبّان اليافعين المسلمين إلى ميدان المعركة في أفغانستان مع تعاطف مجتمعي واسع، سبق هذا التعاطف تمهيد (وهّابي) ظهر في شبه الجزيرة العربية وتطور بسبب تحفيز سياسي يداً بيد مع الديني ليضع قواعد “الولاء والبراء”، لم يقتصر الخطاب على ساحات المعارك بل تبنت مجتمعات إسلامية هذا الخطاب على مدى عقود لتنغلق حوله، تدافع عنه وتنتصر له مع كل حرب ظالمة ضد محتل أو مستبد فتبرر لحركات الإسلام السياسي، ومع كل موقف تتعرض له الهوية المسلمة للاستهزاء -كرسم الكاريكاتور- فتستوجب الحشد الديني.
بالمقابل كانت هناك حركات دعوية سلفية لكن ناعمة ومحصورة بحدود الدول ذات الأغلبية المسلمة، فأثناء هجمات 11 سبتمبر ودعاية القاعدة الإعلامية المستمرة بترهيب عدو الله، كانت بعثات التبشير الديني الإسلامي السلفي إلى شرق آسيا وبلدان أفريقية لا تتوقف، يدعو فيها مشايخ سلفيون المسلمين البعيدين إلى نهج دينهم الحق، من مبدأ “كلهم في النار إلا واحدة” متخذين الوصاية الدينية للمنهج السلفي على باقي الفرق الدينية “الكافرة”، تاركين دعاية الإرهاب المريعة والتي لصقت بالإسلام منذ حينها تدور في وسائل الإعلام العالمية، انتشر الدعاة مع ظهور قنوات التلفاز الدينية وبدأت السلفية عصرها الذهبي مع مشايخ تمولهم البرامج التلفزيونية، كانوا في كل مكان، في التلفاز وفي والكاسيتات الصوتية والمكتبات، حركة لا تهدأ لخطاب يبشّر بإسلام جديد على صلة أصولية بإسلام الجهاديين من حيث المراجع الدينية، إسلام جاف ينذر بالموت وعذاب القبر، تزامن هذا الخطاب بدوره مع غياب حركات التحرر المدنية وكرس لعهد الخطوط الحمراء التي وضعها المجتمع لنفسه، أصبحت فتاوي الدعاة الجدد تعبر الحدود ويمتثل لها رب العائلة في أندونيسية أو سوريا رامياً الخصوصية الاجتماعية لكل بلد عرض الحائط، وتقلّص دور الأزهر كمؤسسة دينية علمية ليكتفي بتصريحات موسمية وليقيّد من خلال النظام السياسي آنذاك حتى يومنا، وبدأت المذاهب الفقهية الأربعة ذات الأسس الاجتماعية تذوي بسبب الخطاب الجديد الأخّاذ العائد للقرآن مباشرة، للنص الأصلي بدون عمل عليه. ارتاح الناس لكلام الأصول، وربما للمخلّص الديني الذي ينجي من جحيم التفكير والسؤال والعمل والتجديد، انشغلوا أيضاً بفتاوي يومية تخص شكل المرأة ولباسها وشكل حاجباها -رغم الخصوصية الاجتماعية لشكل الحاجبين على مر الأزمان- وفتاوي لا تنتهي تخص علاقة الرجل بزوجته، فصارت تلك أغلب الأسئلة التي تَرِد في برامج الفتاوي الدينية، عدا عن تفاصيل تخص العبادات كالمسح على الخفين ونقض الوضوء والصيام، وكانت ذات المحاور الأساسية لخطب الجمعة الأسبوعية. لم تبرء الصوفية أيضاً من تذويب الخطاب الديني وتمييعه رغم ارتباط المشيخة بالنظام السياسي الاستبدادي وابتعادها عن الخطاب الجهادي تكريساً للجمود السياسي من مبدأ الأمن والأمان، بل كانت تهتم أيضاً بقضايا تخص مقدار فرد المرأة ليديها بالسجود، والسؤال الكوني حول مفاتن المرأة وطهارتها. تمرّس المجتمع شيئاً فشيئاً على قانون الأمر الواحد والذي لا يمكن العدول عنه، حتى أبسط العبادات لا يمكن لك أن تناقش حكمها الفقهي، وبهذا صار الطريق إلى نقاش أمهات الكتب والعقائد وأحكام الجهاد والمعاملات، أو نقاش الحركات الإسلامية ومنشأها السياسي، أمراً يعرّض الباحث إلى التكفير أو الهجوم الجمعي من المجتمع نفسه قبل تدخّل متنفذين دينيين وسياسيين في الدولة.
لكن هل كان جلَ قضايا الإسلام خلال الثلاثة عقود الماضية إما ترهيب العدو أو شغل الناس بتفاصيل العبادة؟ في عالم متسارع يتسابق فيه الباحثون الغربيون على دراسة قضايا منطقتنا الشرق أوسطية البائسة يتحدثون اللغة العربية الفصحى ويقرأون القرآن والصحيحين وكتب علماء الإسلام المؤسسين، صار من الصعب أن ننكر فشلنا -نحن المعنيين مكانياً وزمانياً بالهوية الإسلامية- في تخلينا عن التفكير والعمل على تراثنا الديني بشكل عقلاني وعلمي وداخلي كمشاركين ومناقشين وليس كموضوعات تطرح على طاولة المخبريين -من مختبر- والذين يتعاملون مع التراث الشرق أوسطي أو\والإسلامي كموضوع وصفي يستمد متغيراته مما لا يتغير، ومن الصعب أيضاً أن ننكر إفساح المجال لعلماء دين أصوليين ذو مآرب سياسية ببناء خطاب دعائي استغلالي يشكك بقدرتنا على التفكير، فتكريس السياسة للدعاة الجدد أصحاب المذهب المختار هيّء لترسانة مجتمعية ضد النقد، الإسلام العالمي الأصولي الجديد المتنكر لأي خصوصية مجتمعية عمل يداً بيد مع علماء السلاطين، وخلق (مجتمع سلاطين) يرتاح لقول الأولين وللنصوص القديمة التي لا يلق بالاً لتمحيصها العقلاني وتعطيل بعضها وقياس الآخر أو لأسباب نزولها وخاصيتها الزمانية والمكانية رغم أن القرآن نفسه نقد جمود الأمم السابقة في التاريخ، (قالوا بل نتبع ما ألفينا عليه آباءنا)[1]، في نقده لنبذ التجديد. مجتمع السلاطين هذا، يقاطع كل محاولة تجديدية قبل تدخّل الإسلاميين أنفسهم ويخلق بداخله الحدود التي تحول إلى خروجه من بؤسه. نجاح مجتمع السلاطين الوحيد، هو في نبذ كل باحث حاول الاقتراب من الخطوط الحمراء، لست في محل سرد قائمة المجددين الذين نالوا ما نالوا من القدح والذم لمحاولتهم العبور بالتراث الديني إلى عصرنا الحديث ليتكيف معه وليعيش التجربة وليكون متحرراً من الأغراض السياسية أو الدعائية سواء على صعيد مؤسساتي أو فردي. لكن في محل مسائلة نقد الخطاب الديني وليس فقط تجديده كمسؤولية هوياتية جمعية ومؤسساتية، في زمن أصبح دين وهوية الملايين عرضة للتراشق السياسي الدولي كما يحدث اليوم، في كل حرب تقام، وفي كل دورة انتخاب، وفي كل صفقة سياسية وتجارية، سيمس الإسلام بسوء ومعه ستمس هوية الملايين، ومع كل عمل “إرهابي” سيحشر العقلانيين في زاوية المدافعين عن الإسلام وذلك باستثناء منفذ العمل الإرهابي من الفكر الديني وما يتبعه من كلام عاطفي، لكن بالمقابل دون المساس بالفكر الديني لأن أجيال نشأت على الجمود والتكرار والأصولية، وسيستحيل يوماً بعد يوم إنكار أصول العنف الدينية وبراءة الإسلام الكلية منه.
[1] آية 170 – سورة البقرة