مصعب الحمادي
قراءة في كتاب (راهبٌ في الأسْر)
بالنسبة لراهب دير مار إليان في مدينة القريتين في حمص فإن الحرب السورية سببها أنّ هناك مرتزقة يريدون -باسم الإسلام- السيطرة على سوريا واستئصال المسيحيين منها. بهذه العقلية التبسيطية الساذجة يمضي “أبونا” جاك مراد في رواية قصته الشخصية حيث تعرّض للاختطاف مدة خمسة أشهر على يد داعش عام ٢٠١٥.
وعبر نافذة ما حصل له شخصياً، يسرد لنا الأب جاك مراد قصة الحرب السورية برمّتها من وجهة نظره، حيث ضمّن كل ذلك في كتابه الصادر باللغة الفرنسية من باريس عام ٢٠١٨ بالاشتراك مع آموري غوليم بعنوان: (راهب في الأسر: كفاح راهبٍ أَسَره الجهاديّون من أجل السلام).
لا يملك قارئ الكتاب إلا أن يتعاطف مع “أبونا” جاك الذي مرّ بمحنةٍ خطيرة في حياته من خلال تجربة الأسْر عند التنظيم الإرهابي الأخطر في العالم، لكن القارئ -وخصوصاً إذا كان سورياً- لن يلبث أن يُصاب بالحَيرة والشكّ وهو يستعرض المغالطات الخطيرة التي يقع فيها الكاتب، والفشل في رؤية الوقائع على ما هي عليه، بالإضافة إلى غياب الجانب الأخلاقي في رواية الأحداث، مع أن “أبونا” يريد أن يقنعنا طوال الوقت بأن نفحات المحبّة والإيمان التي تغمره آتيةً من يسوع المسيح والسيدة العذراء اللذين كثيراً ما تجلَّيا له وهو في سجون داعش.
ابتداءً من عنوان الكتاب نرى أن الراهب جاك مراد (مواليد مدينة حلب عام ١٩٦٧) يحمّل “الجهاديين” مسؤولية ما حصل، ويبني كل ما جرى معه على أساس أنه قصة اختطاف وإرهاب من قبل “الجهاديين،” مع أن تنظيم داعش أثبت للعالم أنه ليس إلا مافيا دولية ذات بنية استخبارية مقعدة لا يشكل العنصر الديني إلا جانباً صغيراً منها. كما أن داعش أكثر من حارب جماعات المجاهدين الوطنيّين ممن لم يتفقوا مع نهجه التكفيري. وهكذا فإن كلمة “داعش” -لو استخدمها الكاتب- محدّدة وتحيل إلى المجرم مباشرةً، عكس كلمة “جهاديين” ذات الإحالات الكثيرة التي ينطوي استخدامها على مخاطرة المطابقة بين داعش وبقية المسلمين، وخصوصاً أنها تتضمن الجذر “جهاد” الذي له معانٍ إيجابية في الإسلام. وهكذا فإن اختيار الكاتب لكلمة “الجهاديين” في العنوان وعلى امتداد صفحات الكتاب مجافٍ للصدق وفيه غشّ لأن الكلمة تصبغ إدانة ضمنية لكل المسلمين وللدين الإسلامي.
المطابقة بين داعش وبقية المسلمين ليست وهماً يصاب به القارئ، بل هي عينها نافذة يطلّ بها عقل الأب جاك على الأحداث من حوله. ففي صراعه النفسي خلال أيام الاختطاف الطويلة لا يبرح يستذكر علاقته الطيبة مع المسلمين في حياته منذ أيام الطفولة في حي العزيزية في حلب. وهو يتذكر أيضاً الأهالي المسلمين في منطقة النبك حيث أمضى سنوات في مار موسى برفقة الأب باولو. كما يتذكر المسلمين الذين ساعدوه في ترميم دير مار إليان في القريتين عام ٢٠٠٠ عندما انتقل ليستقر هناك. ويذكر أكثر من مرة قصة العوائل المسلمة التي استقبلها في دير مار إليان في القريتين وقدم لها المساعدات الغذائية في أثناء الحرب. بالنسبة للأب جاك لا توجد ثورة من أجل الحرية في سوريا ولا نظام يشنّ حرباً ضدّ السكان، لا إبادة مدن كاملة ولا مذابح طائفية، لا براميل متفجرة ولا أسلحة كيميائية وإنما مجرد “طوشة” أو فتنة بين المسلمين والمسيحيين. وعبر سرديات طويلة ومملّة وليس لها علاقة بالواقع على الأرض يريد الأب جاك مراد أن يقول للقارئ: “كنت محسناً دائماً للمسلمين وعلاقتي بهم طيبة لكن هاهم يغدرون بي ويختطفونني!”.
وكي لا ندع مجالاً للشك بهذا المضمون السلبي لرواية الأب جاك لننظر كيف يفسّر انضمام شباب مدينة القريتين للثورة. فهم برأيه يريدون أن يحصلوا على العذراوات في الجنة! ونراه يتساءل في مكان آخر إن كان دافعهم الحصول على الأموال التي “تدفقت عبر الصحراء” لشراء البيوت والسيارات الفاخرة. بل ويتهم أهل القريتين جملةً بالتعاطف مع الإخوان المسلمين، وهي الوصمة التي أطلقها النظام على كل من عارضه خلال الثورة.
يعترف الكاتب أن علاقته كانت جيدة دائماً بالحكومة السورية وبالجيش السوري والمخابرات الذين استقبل أفراداً منهم جميعاً في الدير خلال الحرب وساعدهم في إيصال رسائلهم للثوار بما في ذلك تلك الرسالة المشؤومة التي أفضت إلى دخول جيش النظام للمدينة بعد طرد الثوار والسكان منها في مرحلةٍ ما قبل أن توجد داعش في المدينة، لكن الأب جاك مراد رأى في ذلك وقتئذ عودة للسلام والأمن إلى القريتين ودعا ضباط جيش النظام للصلاة معه في الدير. ولعلّ إيرانيين ولبنانيّين وأفغاناً صلَّوا معه أيضاً، لكنه لم يذكر ذلك طبعاً.
بعد هروب الأب جاك من أيدي خاطفيه في ظروف مشبوهة عاد إلى حمص حيث انهمرت دموعه فرحاً عندما وصل بأمان إلى حاجز للمخابرات على أبواب قرية صدد شرق حمص.
لو أراد الأب جاك أن يفهم ما حصل معه وامتلك مداركَ أوسع وقلباً خالياً من التحيّز والأحكام المسبقة لعلم أنه بين داعش في مدينة القريتين وحاجز المخابرات في قرية صدد فإنه لم يسافر طويلاً. وأنه انتقل من اليد اليسرى إلى اليد اليمنى لنظام الأسد، الذي قام بمساعدة داعش بعملية تطهير طائفي غير مسبوقة في تاريخ سوريا حيث طرد السكان المسلمين من مدينة القريتين وجوارها في البادية السوريّة وخصوصاً مدينتي تدمر والسخنة واستجلب مكان السكان الأصليين حزب الله اللبناني والميليشيات الشيعية الإيرانية والأفغانية.
لكننا لن نعثر على كلمة واحدة من قصة التطهير الطائفي لمدينة القريتين والصحراء السوريّة. كما أننا لن نقرأ في كتاب الأب جاك كلمة واحدة عن موت نصف مليون سوري وتشريد نصف سكان سوريا معظمهم من المسلمين لأن رحمة الأب جاك ومشاعره الإيمانية العميقة لا تذهب أبعد من الجماعة الكاثوليكية الصغيرة التي كان يرعاها في القريتين، فإن توسّعت شملت بعض الأرثوذكس من أبناء المدينة. لم تكن نظرة الأب جاك لسوريا وللإله جلّ جلاله أفضل من نظرة ذلك الأعرابي الذي جاء للنبي الكريم ودعا قائلاً:
“اللهم ارحمني وارحم محمداً ولا ترحم معنا أحداً!”
حيث تبسّم النبيّ من سذاجة الرجل وأنّبه قائلاً:
“لقد ضيّقت واسِعاً يا أخا العرب!”
المصدر: تلفزيون سوريا