حسام جزماتي
لم يرجع رفعت إلى سوريا، ظهر الخميس الماضي، إلا عقب أن عادت هي إليه بعد عشر سنوات كاملة من الردة عن المعالم التي تختلف عن نهجه، والتي كان قد أرساها شقيقه حافظ وابن شقيقه بشار.
فمنذ أن صعد الأخَوان إلى السلطة، إثر وثوب حزب البعث على الحكم عام 1963، اتسم الأول، حافظ، بالهدوء واحترام الأنظمة شكلياً والتآمر عليها عملياً؛ فيما اشتهر الثاني باختراقها وبالاحتكام إلى القوة العابثة العارية. وكانت «سرايا الدفاع»، التي قادها أبو دريد حتى أصبحت جيشاً رديفاً عند صدام الاثنين، صورة عن شخص قائدها التاريخي وموقعه المحيَّر. فهي قطعة من الجيش النظامي. وهي، كذلك، شبه ميليشيا من ناحية عدم خضوعها للنظام العسكري والأمني من خارجها، وتسليحها المميز، ورواتبها العالية، ومساكن منتسبيها المشروعة والمخالفة، وترابطها على أرضية الولاء الشخصي للقائد والتعاضد الطائفي الجماعي.
ما فعله حافظ، بعد التخلص من أذرع الشراكة الملونة التي كان شقيقه قد زرعها في كل قطاعات الحكم والحزب، هو السير بالبلاد نحو «الدولة» بمعنى بيروقراطي. وقد تعزز هذا المسار مع تكلّس السلطة منذ منتصف الثمانينات، وتراكم ورقياتها المتضاربة والمتناسخة والمتضايفة، وإهماله المتزايد لشؤونها المدنية والحكومية حتى وفاته عام 2000.
ورث بشار دولة رمادية متجهمة فحاول تحسين أدائها عبر طفرة من المراسيم التي سرعان ما تبين تناقضها حسب الناصح كل مرة. ورغم أن مهمة «التطوير والتحديث» بدت مستحيلة إلا أن التجميل كان متاحاً، بافتتاح البنوك الخاصة وماركات الألبسة والمطاعم ذات النمط الغربي وتغيير لباس الجيش الخاكي إلى المرقط والبدلات شبه العسكرية لطلبة المدارس المتوسطة إلى ألوان فرحة وموديلات طبيعية… إلخ.
ولكننا لا نبالغ في القول بأن العقد الأخير من الحرب قد أطاح بمعظم منجزات هذين المسارين؛ الدولة وزينتها. فمن جهة أولى لجأت سلطة بشار الأسد، لحماية نفسها من السقوط، إلى الاستعانة بقوى أهلية لقمع المظاهرات أولاً، ثم إلى تسليحها وتنظيمها في فصائل من أصحاب السوابق أو المتهربين من الخدمة العسكرية أو أي متطوعين متاحين، فشكلت بهم قوى «رديفة» ترتبط شكلياً بأجهزة الأمن أو فرق الجيش. وحيثما أتاحت الديموغرافيا قامت هذه الفصائل على عصبية طائفية. وهو ما كان العقد الأول من حكم بشار قد حاول تقليصه أو التخفيف من ظهوره على الأقل. وقد أناطت بعض هذه التشكيلات التشبيحية بنفسها، في مناطق مختلطة، القيام بمجازر طائفية بالتغاضي من ضباط متواطئين أو رغماً عنهم.
كما أن ميليشيات «الأصدقاء»، العاملة على الأرض، رفعت واجهة طائفية معلنة بالدفاع عن المقدسات الشيعية، كاسرة بذلك محرّماً كان الأسد الأب شديد الحرص على تجنبه، فضلاً عن استقلالية القرار التي طالما فاخرت بها «دولة» حافظ، وورثها ابنه. وبالإضافة إلى كلام كثير يقال عن النفوذ الإيراني والروسي في أجهزة الأمن والجيش، لم يعد مستهجناً أن يظهر بعض الضباط الوازنين بلحى أو شملات سوداء وهم يحاربون المعارضة المسلحة، ما جعلهم أشبه بقطاع الطرق. ولم يكن «التعفيش»، أي سرقة مفروشات منازل المدنيين بعد الاستيلاء عليها، و«الترفيق»، أي تقديم خدمة حماية سيارات البضائع، إلا تتمة متناغمة مع هذه الحالة.
ومن جهتها تكفلت الأزمة الاقتصادية، وتداعي الخدمات الأساسية، في رشق الماء على وجه العاصمة دمشق، التي كانت موضع اهتمام التجميل أساساً، مزيلة المساحيق المغشوشة دون عناية، تاركة مكانها آثاراً متناوبة أشبه بكدمات.
وأي لون يسكن قلب «القائد»، العائش في «الزمن الجميل»، أكثر من هذا الأحمر المرقط الذي كان يرتديه جنوده الذين لقّبهم بـ«الفرسان»؟
يرى الكثيرون أن زمن رفعت ولّى، بعد ما يقرب من أربعين عاماً قضاها في الخارج، تكفل خلالها الهرم والموت بإخراج ضباطه من الخدمة، بعد أن تعرضوا لمجزرة من التنقلات هدفت إلى كسر تكتلهم وتهميشهم أو تبديل ولائهم. ورغم أنه استمر في إرسال معونات شهرية شبه سرية لعدد كبير من رجاله، إلا أنها انحسرت حتى انقطعت نتيجة التدقيق الأمني من جهة، وتراجع ثروته وملاحقتها من جهة أخرى. ويجادل هؤلاء في أن الكاريزما، التي كانت أبرز سمات رفعت بين العلويين حتى الثمانينات، باتت جزءاً من ماض بالأبيض والأسود أو بالألوان الباهتة، فيما نشأت أجيال من الطائفة تشعر أن ولاءها الطبيعي لبشار، بوصفه الرئيس وابن المؤسس ووريثه في حماية الجماعة والمحافظة على رابطتها. ولشقيقه ماهر، قائد الفرقة الرابعة التي خلفت سرايا الدفاع، لكن من دون أن يشوّش على حكم أخيه ويعرّض مركب الجميع للخطر.
على الضفة الأخرى يبدو أن الميزات التي ما زال رفعت يتمتع بها ليست قليلة لو أتيحت لها فرصة الحركة والتفعيل. وهو، لا شك، مما يعلمه ابن شقيقه حين سمح له بالعودة ضمن شروط مشددة ستتضح بالتدريج. إذ لطالما أتى الخطر الحقيقي على حكم حافظ الأسد وولده من داخل البيت؛ وأعلى مراتبه الارتباط برفعت، ثم الولاء لصلاح جديد وحقبة ما صار يسمى «البعث الديمقراطي»، وأخيراً الانتساب إلى الجناح العراقي من الحزب. ففي هذه الحالات ينخر «السوس» جذع السلطة نفسها، إذ يكون المتآمرون، عادة، من كبار الضباط وقادة الفرق أو الأجهزة الأمنية وفروعها أو أعضاء قيادة قطرية أو وزراء أو محافظين… إلخ. فيما يندر أن يحدث ذلك في حالة الإخوان المسلمين والشيوعيين مثلاً.
أول ميزات رفعت، إذاً، أن زمنه لم ينقضِ بل عاد مدعماً بتجربة دموية أخرى تفوق أحداث الثمانينات. وقد علّمت هذه التجربة ممارسيها من طرف النظام، وحاضنته الطائفية، أن الجوامع منبع الإرهاب ولذلك يجب تحجيمها بصرامة. وأن في قلب المتدينين المقادير اللازمة لتحضير داعش، حين الطلب، لتذبح وتسبي. وأن وسيلة الحكم المثلى هي «البوط» وتقديس لابسه وجريحه وقتيله. وأن من حق من يدافع عن «البلد» (النظام) أن يحصد نتائج تمييزية، باستباحة المال الخاص وبالاستئثار بحصة أوفر من المال العام. بالإضافة إلى تفضيلات أخرى يجب أن ينالها المقاتل، أو من ينوب عنه في حال تطويبه «شهيداً»، من سكن أو وظائف أو منح دراسية، وهو ما كان القائد يمنحه لرجاله ومحاسيبه وللملتحقين بدورات المظليين التي نظمها كرديف شبيبي لقواته. وكل ما سبق من نتائج مسمومة هو من صميم «مبادئ» رفعت التي عبّر عنها في خطابات منشورة ومارسها عملياً كمجازر، كما هو معروف من سيرته في تلك السنوات العصيبة.
ومع ذلك فالقائد أوسع من هذا. فبالإضافة إلى وجه القمع دون رحمة، والعلمانية الاستئصالية التي تشف عن طائفية؛ عُرف عن أبو دريد، الذي لا يهتم بانسجام أفكاره، ميل إلى الغرب ودعوة، تعززت خلال إقامته في الخارج، إلى «الديمقراطية» والانفتاح الاقتصادي، وصِلات مع دول الخليج وبعض حكامها وأمرائها. مما قد يكون مدخلاً إلى تحسين علاقات البلاد مع المحيط واستجلاب التمويل الذي استطاع توفيره لحياته الباذخة ودعم أنصاره طيلة عقود. وهذه «غنيمة» يطمح إليها حتى من دأبوا على شتم «العربان» خلال السنوات الماضية دون طائل، وهم يعانون اليوم من بؤس جاد وحاد.
بالمقارنة مع بشار (وماهر) يحمل رفعت ميزات رابحة على طول الخط رغم تناقضها. فمن جهة هو صاحب «خبرة» بالقياس إلى سمة «الغرّ» التي لم يتخلص منها بشار رغم تجاوزه الخمسين. ومن جهة أخرى لا يبدو العم ناقص الحيوية مع عمره الذي بلغ الرابعة والثمانين. ومن جهة أولى فهو «مجرَّب» وناجح. ومن الجهة الثانية بعيد عن الأداء الكارثي للحكم في أثناء الثورة، والذي أدى إلى «نصر» بطعم الهزيمة. ولذلك ربما حمل رفعت، في نظر قطاعات من الطائفة، معالم حل «جديد» يُخرجها من مأزقها العميق الحالي.
ليس من الضروري أن تكون المعطيات السابقة منطقية أو مجدية، خاصة في ظل تعدد القوى المتدخلة في البلاد وتعقد خريطتها الشطرنجية، لكن الكاريزما تُصنع من حصى الحقائق وعمارة الوهم. ولا أسهل على من امتلكها ذات يوم، في بيئة معينة، أن يستعيدها طالما حافظ على جذور كامنة لها هنا وهناك، قد تنمو بسرعة في ظل انسداد الأفق والبحث عن أي بديل. وهو ما يعيه بشار جيداً…
المصدر: تلفزيون سوريا