جسر:مقالات:
قبل أربعة قرون تقريباً كتب شكسبير مسرحيته الشعرية الشهيرة “ماكبث”. والتي يقول في أحد أبياتها الشعرية: “لقد قتل ماكبثَ النعاسُ البريء”.
ولا نعلم اليوم أيهما قتل الآخر، ماكبث قتل النعاس، أم أن النعاس هو من تولى قتل ماكبث؟
ماكبث قائد عسكري في مملكة اسكوتلندا. يعجب به الملك “دنكان” لشجاعته وإخلاصه. بعد أن يقضي على كل الفتن وكل أعداء البلاد، لكنه في النهاية يقع تحت إغراء السلطة وغواية زوجته، التي لم يكن لها توقٌ ورغبةٌ أكثر من الاستيلاء على السلطة والوصول إلى كرسي المملكة. دفعه لذلك نبوءة ثلاث ساحرات شيطانات يلتقي بهن صدفة، فيتنبأنَ له بأنه سوف يصبح “نبيل غلامس”. ثم يصبح “نائب الملك”، وأخيراً سوف يصبح هو ملك اسكوتلندا. رغم أن ماكبث لم يكن يفكر بكل هذه الطموحات، ولا جرت له على بال.
زوجته “الليدي ماكبث” ـ التي كانت تريد أن تستعجل الأقدار ـ تنفعل وتهتم بنبوءة الساحرات ربما أكثر منه بكثير، وتبدأ من وقتها للسعي بكل الوسائل لتحقيق النبوءة، كي تصبح “الليدي ماكبث ملكة البلاد”. فلا تجد وسيلة إلا بأن تغدر بالملك “دنكان”، الذي دعاهما لضيافته في قصره، وبذل لماكبث وزوجته وحاشيته كل ما استطاع من كرم وحسن ضيافة.
أثناء نزول القائد ماكبث و”الليدي ماكبث”، ضيفين في قلعة الملك، تُحَرِّض الليدي ماكبث زوجها على تنفيذ جريمة الاغتيال، فيتردد ماكبث ويشعر بالرهبة. فما يكون منها إلا أن تصرخ به: “أنت لست برجل”. وينتهي الأمر بأن يُقتلَ الملك الطيب والمحبوب “دنكان”، ويخرج ماكبث إلى الجند والشعب معلناً نفسه ملكاً على البلاد.
يرفض الجند واقع الأمر الذي وقع نتيجة جريمة غادرة. ويبدأ التمرد ضد ماكبث والاعتراف به ملكاً. وينتفض كل أمراء البلاد ورجال الدين والإقطاعيين وأصحاب النفوذ والشأن. ثم تتابع عامةُ الشعب التمرد ضد ماكبث وقرار حكمه، وتوليه عرش البلاد دون رغبة أحد. يستشعر أعداء البلاد ضعف ماكبث ومملكته، فيطمعون بالتدخل في شؤون المملكة والسيطرة على مقدراتها. فيهبُّ ماكبث وقد عقد العزم على أن يطفئ كل هذه النيران التي اشتعلت من حوله، ولكن عبثاً.. فكلما أطفأ ناراً أوقدَ أخرى، وكلما قضى على تمرد ثار في وجهه عشر ثورات.. هكذا يواصل ماكبث الليل بالنهار في حروبٍ عبثية ومؤامرات، وفي دفع بلاء وتوقع انفجار بلاء جديد.
لم يعد لماكبث هيبته القديمة كمقاتل وقائد شهم وشجاع. صار في نظر الجميع مجرد خائن غادر، وطمّاعاً طالبَ عرش. وكلما تذكر ماكبث الملك “دنكان” الذي أحسن إليه وأكرم وفادته، فيما قابل هو إحسانه بالخيانة والعار والغدر غير المتوقع، كلما استفاق القلق والغضب والوساوس في نفسه، حتى إنه بات يقضي لياليه مؤرقاً في فراشه لا يستطيع النوم. وكيف ينام خائن غدار جبان لم يفز بسمعة الملك الطيب، قطع اليد المحسنة التي امتدت إليه، وخان قسم الجندية الذي آلاه على نفسه، وما ظفر بتذوق اللقمة التي خطفها غدراً وخيانة، ولا استساغ الهناءة بها..؟
هكذا “قتل ماكبثَ النعاسُ البريء”، فلم يعد يأمل إلا بأن ينام
بعض ساعاتٍ قرير العين. فهو يصارع النعاسَ والنعاسُ يصارعه. كلاهما يطلب الآخر فلا يناله، وكلاهما يريد أن يقتل الآخر. هذا إذا صح إسقاطنا التشبيهي بأن الملك الطيب والمغدور “دنكان” هو الأقرب شبهاً بالشعب السوري.
مسرحية بشار الأسد ربما كانت مختلفة في نقطة واحدة فقط. وهي أن خط سيرها مضى بعكس المسيرة التي بدأت عندها مسيرة ماكبث، وانتهت إليها. الأسد ورث عرش سوريا دون عناء، ولم يطلب شرعية لحكمه لا محلية ولا عالمية. نال عرشاً محاطاً بجنرالات أبيه الذين كانوا مستعدين لدعمه بكل ما يطلب. وتولى ولاية الحكم على شعب كانت أكثريته الساحقة تتوهم بأنه شيء مختلفٌ عن والده؛ طبيبٌ شابٌ درس في جامعات الغرب، جاء من خارج مؤسسة السلطة الغارقة في المؤامرات والقمع والوحشية والفساد، لديه شهادة موثقة بخبراته المعلوماتية، في اللحظة التي كانت البلاد تدخل عصر الإنترنت. زوجته “الليدي ماكبث/أخرس” بريطانية تنحدر من سلالة رجال أعمال متنورين، حائزين على الجنسية البريطانية. ولم تعرفْ في حياتها هي وعائلتها، إلا ديمقراطية الغرب وتقاليده المدنية والترقي والحداثة.
كان حلم شعبه الذي استشرف فيه المستقبل الواعد بسيط، وغير مكلف له. ولا يتعدى أكثر من تغيير بضعة قوانين، واستبدال بضعة فقرات دستور، ورفع مستوى التعليم في البلاد، وشيء من تقليم أظافرِ فسادِ سلطاتٍ مستشرٍ، وطائفية قبيحة وفجة، وازدياد بطالة وقلة دخل ومستوى عيش، فضلاً عن المحسوبيات والاستقواء على الجانب الضعيف والمسحوق من مواطني هذه البلاد، بإحقاق بعض العدالة. وهي مطالب لو بدأها متثائباً ومستمهلاً بضع سنوات، قبل أن ينجزَ بعضها لنال رضى الكثيرين، ولحاجَجَ بما أنجزه أكثر غير المنحازين له وغير المراهنين عليه.
في الواقع فإن سيرة “ماكبثنا” تختلف عن سيرة “ماكبثهم” في نقطة أخرى عظيمة الأهمية، فلقد أقدم ماكبث اسكوتلندا وزوجته الليدي، على ارتكاب جريمة واحدة، جرَّت عليهما كل هذا البلاء، فتداعت البلادُ تباعاً كما تتداعى أحجار الدومينو. بينما كان متاحاً لـ”ماكبثنا” أن يتراجع بعد اجتراح الجريمة الأولى والثانية والعاشرة والخمسين… لولا أنه أصرَّ بعنادٍ غير مفهوم، وما يزال مصراً حتى بعد مرور عشر سنوات، على عشرات آلاف الجرائم والأخطاء، بأن ما فعله هو الصحيح، وهو ما كان يجب أن يفعله، دون زيادة أو نقصان. هل كان يُعقلُ أو يُتوقعُ منه أن يجرح مشاعر ابن خالته أم عاطف نجيب، فيعاقب ابن خالته بسبب “حماقة عابرة” وتصرف عاثر، حين اعتقل أطفال درعا وأهانَ أهلها، وخيَّب أملَ السوريين جميعاً؟
والواقع يقول أيضاً بأن ماكبث لم يرض لبلاده، رغم جريمته العاثرة، أن يطمع فيها الغزاة والمتدخلون الخارجيون. بينما “ماكبثنا” الذي كان متاحاً له في أي وقت أن يتراجع ويصلح ما أفسده، أن يتصالح مع شعبه، فيمنعَ الطامعين والغزاة الخارجيين من التدخل في شؤون بلاده. لكنه فعل العكس تماماً، وقرر بأن يصلح كل خطيئة بخطيئة أكبر منها، وأن يأسى كل جرحٍ اجترحه، ببيع قطعةٍ من وطنه، وأن يبيع حكمة السياسي، وتريث القائد المحنك، بالجرائم الهوجاء والقرارات المجنونة التي يصعب فهم مغزاها. حتى أصبح اليوم لا يملك من أمره شيئاً؛ يُراحُ ويُغدى به أحياناً ليوقع قرارات، ربما لم يتح له حتى أن يطَّلع عليها، ويُستعرضُ أمام شاشات التلفزة حسب رغبة الأقوياء والمتدخلين الذين باتوا أولياء أمره، وأصحاب القرار في بلاده التي باعها كالخردة بالتقسيط، وبالقطعة.. وهو ما يزال مسروراً يضحك، أو يتظاهر بذلك، وهو قلقٌ من مصيره النهائي ومصير عائلته، التي شاركته كل جنونه هذا.
ماكبث شكسبير يُقتلُ في النهاية، فيستريحُ بموته من القلق والنعاس البريء، الذي كان يسعى إليه. فهل يستطيع الأسد اليوم، أن ينام براحة بال وهدوء بعد كل هذا الذي جرى؟ أم أنه سيظل حتى المشهد الأخير في مسرحيتنا السورية، يصارع النعاسَ البريء، حتى يصرع أحدهما الآخر.. مثل ماكبث تماماً؟
المصدر:موقع تلفزيون سوريا