جسر: متابعات:
إن الملاحظ لتطورات الوضع في السودان والجزائر لا يمكنه إلا أن يجزم بخروج الاحتجاجات في البلدين من رحم اليأس مما آلت إليه وضعية البلاد خلال السنوات الماضية، احتجاجات شبت وسط مخاوف من مصير مشابه للثورة السورية وباقي ثورات الربيع العربي، إذ انتصرت فلسفة الثورات المضادة والأنظمة الديكتاتورية التي أرجعت البلاد سنوات أخرى إلى الوراء.
ولكن الجماهير التي احتجت في السودان وما زالت تحتج في الجزائر استخلصت الدروس من ماضي غيرها، وحرصت على الابتعاد عن العنف، وما يطعن في سلميتها، ورغم التشابه الذي يجعل البلدين يلتقيان في عدة محاور إلا أن السودان سبق الجزائر في الوصول إلى بداية اختبار الانتقال الديمقراطي، فيما لا يزال الشارع الجزائري يسابق الزمن للاجماع على خارطة طريق موحدة ترضي جميع الأطراف في البلاد، فهل يمكن حقيقة إسقاط الحلول السودانية على الجزائر؟
قادت الحراك في السودان منذ أواسط ديسمبر/كانون الأول الماضي، قوى مدنية ونقابية، حظيت بقبول شعبي واسع، واستمدت منه قوتها وشرعيتها، ففي البداية كان تجمع المهنيين السودانيين الذي أظهر قدرة تنظيمية كبيرة في تأطير المسيرات وضمان توسع الحراك في مختلف شرائح المجتمع ومناطق البلاد، وكذا إيجاد أشكال متعددة ومختلفة للتعبير عن الموقف السياسي المطالب برحيل البشير ونظامه، والتحقت أحزاب المعارضة الرئيسية في السودان بالحراك الشعبي بعد أسابيع من اندلاعه، وانضمت عدة تحالفات سياسية وقوى مدنية مختلفة التوجهات إلى ما يعرف بتحالف قوى إعلان الحرية والتغيير.
هذا التحالف أصبح الممثل الرسمي للحراك الشعبي في مفاوضات دامت أشهرا مع المجلس العسكري الانتقالي الذي تولى سلطة تسيير البلاد بعد عزله الرئيس عمر البشير في إبريل/نيسان الماضي، وتخللت المفاوضات عدة مطبات خلافية داخل مكونات قوى الحرية والتغيير من جهة وخارجها في مواجهة المجلس العسكري وقوات الدعم السريع من جهة أخرى. وبالرغم من تعدد المطبات باختلافها، نجحت الأطراف السودانية في تجاوز خلافاتها الشكلية وحسمت قضية المفاوضات بالتوقيع على وثيقتي الاتفاق السياسي الذي حدد هيئات تسيير البلاد خلال ثلاث سنوات وثلاثة أشهر انتقالية، بالإضافة إلى تحديد الصلاحيات المخولة لكل منها.
في المقابل، لم يعرف المجتمع الجزائري حتى الآن قوى سياسية تؤطر الحراك الذي مر على بدايته أكثر من 7 أشهر، وذلك بسبب افتقار القوى الحزبية الحالية سواء المشاركة في السلطة أو المعارضة للرصيد الجماهيري الكافي، إذ تطالب أصوات من الشارع الجزائري بحل كافة أحزاب الموالاة المنضوية تحت لواء التحالف الرئاسي، الذي أعلن في يناير/كانون الثاني الماضي، عن ترشيح الرئيس المخلوع عبد العزيز بوتفليقة لولاية خامسة، ما أثار ضجة وغضبا جماهيريا واسعا.
من جانب آخر، تتعرض أغلبية أحزاب المعارضة في الجزائر لحملة انتقادات وتشكيك في مصداقيتها، بعد مشاركتها في منظومة حكم بوتفليقة لسنوات آنفة، هذا الطعن في مصداقية أحزاب المعارضة في الجزائر دفع العديد من المجموعات الشبابية المشاركة في الاحتجاجات إلى دعوة شخصيات مستقلة في بداية الحراك لتمثيله والدفاع عن أهدافه والمساهمة في تأطير الشباب ليكون فعالاً في العملية السياسية، لكن هذه الشخصيات سرعان ما فقدت هي الأخرى جزءا من شعبيتها نظير حملة تخوين وتشويه شنت عليها بحكم الانتماء الأيديولوجي أو العرقي، ما أشعل حربا باردة بين عدة توجهات أيديولوجية في الجزائر لا سيما وأن البلد يعرف مشكلة حساسة في موضوع اللغة والهوية تعود لعقود سابقة.
ولم يقتصر الرفض على الطبقة السياسية في الجزائر، فحتى منظمات المجتمع المدني والنقابات العمالية لم تحظ هي الأخرى برضا الشارع، فاتحاد العمال الجزائريين وهو النقابة العمالية الأكبر في البلاد، شهد مع اندلاع الحراك خروج آلاف العمال في إطار حركة تطهير مطالبة بتغيير أمينه العام ومحيطه الذي دعم حكم الرئيس المخلوع إبان السنوات السابقة، ورغم الإطاحة بالأمين العام للاتحاد، إلا أن ذلك لم يشفع له عند الشارع الجزائري، فمصيره بات مشابها لمصير أغلب جمعيات المجتمع المدني التي دعمت وشاركت في استمرارية النظام السابق.
نقاط ظل في الاتفاق السوداني وأخرى يمكن الاستفادة منها:
الإعلان عن توقيع الوثيقة الانتقالية في السودان يشكل بداية لمرحلة جديدة تحمل الكثير من الآمال للبلاد، لكن المدقق في تفاصيل الوثيقتين سيلاحظ كثيرا من نقاط الظل التي قد تزيد في تأزيم الوضع بعد انفراجه، فالوثيقتان تتكلمان عن اقتسام السلطة بين العسكريين والمدنيين خلال مرحلة انتقالية تمتد لمدة 39 شهرا، ولكن المؤسسة العسكرية التي لا تحظى بثقة الشارع السوداني ستتولى رئاسة المجلس السيادي لمدة 21 شهرا الأولى، وهي الفترة الأطول من عمر المرحلة الانتقالية، دون وجود ضمانات لعدم استيلاء العسكر على السلطة، لا سيما وأن تاريخ السودان حافل بالانقلابات العسكرية، ومن جانب آخر ستخضع الهيئات التي ستدير هذه المرحلة الانتقالية لمبدأ التعيين وليس الانتخاب، وهو ما قد يثير إشكالات في معايير وطرق التعيين والتي ظهرت ملامحها الأولية في عملية اختيار أعضاء مجلس السيادة، حيث اختلف أعضاء قوى الحرية والتغيير على تسمية أسماء تحقق الإجماع بينها.
علاوة على تجاوز الاتفاق السوداني وثيقة السلام التي مضت عليها قوى الحرية والتغيير والحركات المسلحة من جنوب السودان، ما قد يصعب عملية إرساء السلام التي تدخل في مهام المرحلة الانتقالية.
ورغم وجود العديد من نقاط الظل في بنود الاتفاق السوداني المتوصل إليه الشهر الجاري، إلا أنه بإمكان الجزائر الاستفادة من كيفية تعامل الأطراف السودانية مع إدارة الحوار، ففي السودان كان الجيش الذي يملك السلطة الفعلية طرفاً مباشراً في الحوار وهو ما سهل عملية التفاوض، بعكس ما تعيشه لجنة الحوار في الجزائر التي بات أعضاؤها اليوم يديرون ما يشبه “المونولوغ” السياسي، لإعادة “رسكلة” المرتزقة الذين يباركون أي مسعى، بغض النظر عن انعكاساته، ففي الجزائر لا تزال السلطة الفعلية الممثلة في المؤسسة العسكرية بعيدة شكلياً عن الحوار، بيد أن ذلك لم يمنع قائد الأركان من التدخل مراراً في تحديد أجندة ومحاور لجنة الحوار، رَافِضاً للمطالب الشعبية المرفوعة في الشوارع، لا سيما المطالبة بالإفراج عن معتقلي الرأي ورافعي الراية الأمازيغية في الحراك السلمي.
إسقاط التجربة السودانية على الجزائر
لا تزال التجربة السودانية على أعتاب اختبار الانتقال الديمقراطي، وقد اصطدمت في أول خطوة لها صوب تجسيد الاتفاق بخلافات داخلية ما يفتح الباب أمام كل الاحتمالات، فلا نستطيع اليوم الحديث عن تجربة كاملة أو متكاملة يمكن إسقاطها على الأزمة الجزائرية، كما قد يكون من الصعب المطابقة بين الحالة السودانية والحالة الجزائرية، بسبب اختلاف المسارات التي انتهجتها كلا الحالتين، وبسبب تركيبة المجتمعين، إضافة لتباين طبيعة علاقة الشارع بالطبقة السياسية، وكذا اختلاف دور الجيش في النظامين الجزائري والسوداني.
٭صحافية من الجزائر.. خريجة ماجستير إعلام، وطالبة حقوق مهتمة بالشؤون السياسية في العالم العربي.
مدونات العربي الجديد 26 آب/أغسطس 2019