جسر: متابعات:
يعتقد البعض أن وباء كورونا والفوضى التي تسبب فيها حول العالم يمثل فرصة لإعادة تشكيل كل شيء بصورة أفضل وأكثر عدلاً، لكن البعض الآخر يخشون من العكس؛ أي أن يتم استغلاله لتكريس الأوضاع القادمة بصورة أكثر وحشية وظلماً، ولدى كل طرف ما يؤيد آماله ومخاوفه، لكن المؤكد أن العالم يتغير بصورة لم يتوقعها أحد.
صحيفة الغارديان، البريطانية نشرت اليوم الثلاثاء 31 مارس/آذار تقريراً بعنوان: “لم يعد بإمكاننا العودة للمسار الطبيعي؛ كيف سيكون شكل العالم بعد كارثة فيروس كورونا؟”، تناول فيه الكاتب بيتر بيكر التغييرات الدرامية التي شهدها العالم والتي كان مجرد التفكير فيها مستحيلاً قبل عدة أسابيع فقط.
كل شيء جديد بصورة لا تصدق
يبدأ التقرير بالصورة العامة للتغييرات الضخمة التي حدثت بالفعل والتي كانت لا تخطر على بال أحد قبل أسابيع قليلة فقط؛ “كل شيء يبدو جديداً ولا يصدق، وفي نفس الوقت يبدو وكأننا نعيش كابوساً أو حلماً يعيد نفسه، وهذا ما يحدث فعلاً وقد عشنا ذلك بصورة ما من قبل، لكن ليس في الواقع بل عبر شاشات التليفزيون والسينما؛ وهذا يعني أن لدينا بالفعل فكرة غامضة عما نمر به وهذا في حد ذاته يجعل التجربة إما أقل أو أكثر غرابة من واقعها”.
والمقصود هنا هو أن التغيير الجذري في حياة البشر على كل المستويات منذ بداية فبراير/شباط على الأكثر -أي منذ شهرين فقط- هو ذلك النوع من التغيير الذي يحتاج لأجيال أو عقود طويلة حتى يحدث بالفعل، وليس مجرد 8 أسابيع. لذلك نلهث جميعاً وراء الأخبار ليس فقط لأنها مهمة لكن أيضاً لأنها تحدث بسرعة مذهلة، وهناك سبب آخر (جديد هذه المرة) وهو أننا جميعاً نتأثر بشكل مباشر بتلك التطورات المتسارعة.
تعليق الدراسة ونصيحة “خليك في البيت” ليست خبراً عن أمر ما يحدث في بلاد بعيدة أو منطقة جغرافية ما تؤثر فقط في قاطنيها، بل هذا ما يعيشه البشر جميعاً -دون استثناء- شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً. النقطة الأخرى المشتركة بين الجميع هي “هل أنا حامل للعدوى؟ هل أي من أهلي أو أصدقائي حامل للعدوى دون أن تظهر عليه أعراض؟”، وهذا الخوف لا يستثني أحداً، فقيراً كان أو غنياً، مسؤولاً في الحكومة أو عامل نظافة، مواطناً أوروبياً أو أمريكياً أو شرق أوسطي أو إفريقياً أو روسياً أو صينياً، الجميع معرضون للعدوى.
الكوارث تعيد تشكيل التاريخ
يكرس مئات المفكرين حياتهم لكيفية تأثير الكوارث على حياة البشر وتغيير مجرى التاريخ، وهو ما يسميه البعض بمجال “دراسات الكوارث”، ويحاولون تفسير ما يحدث لمجتمع ما وقت حدوث كارثة تؤثر فيه، حيث تطرح الأسئلة الأساسية وتظهر على السطح كوامن ذلك المجتمع؛ من هم أغنياء ذلك المجتمع ومن فقراؤه؟ من يمتلك القوة؟ ماذا يهم الناس أكثر وماذا يخيفهم أكثر؟
لكن الكوارث لا تلقي الضوء فقط على العالم كما هو، بل إنها تفتح طاقة كاشفة في الهيكل الاجتماعي الذي يبدو وكأنه طبيعة ذلك المجتمع، دون أن يكون ذلك حقيقياً بالمطلق، ومن خلال تلك الطاقة يعاد اكتشاف إمكانية وجود عوالم أخرى أو طرق أخرى لأن يحيا ذلك المجتمع من خلالها.
وهنا يركز بعض دارسي الكوارث على الجانب المظلم المتعلق بكل ما قد يصبح أسوأ بفعل الكارثة، بينما يركز البعض الآخر الأكثر تفاؤلاً على ما يمكن أن ينتج عن الكارثة من فرص للتغيير الإيجابي، وهذا لا ينفي أن الكوارث تختلف في طبيعتها سواء من حيث الحجم أو التأثير، وفي هذا السياق نجد أن كارثة وباء كورونا غير مسبوقة في حجمها وتأثيرها منذ الحرب العالمية الثانية، ونحن لا نزال في خضم الكارثة ولم نصل لنهايتها بعد أصلاً.
الجانب السيئ من وباء كورونا
يميل أصحاب الرأي المتشائم من دارسي الكوارث إلى القول إنها تحول ما هو سيئ في الوضع الراهن إلى أسوأ؛ ويرى دارسو الكوارث من هؤلاء -وخاصةً دارسي تأثير الأوبئة- أنها تميل لتغذية المشاعر العدائية تجاه الآخر وتحويل الأقليات إلى أكباش فداء يصبون عليها الغضب والكراهية، وعندما اجتاح الطاعون (الموت الأسود) أوروبا في القرن الرابع عشر أغلقت المدن والبلدات حدودها في وجه الغرباء وطردوا وقتلوا “غير المرحب بهم” من بين السكان، وكان أغلبهم من اليهود. وفي عام 1858، اقتحم حشد من سكان مدينة نيويورك مستشفى للحجر الصحي للمهاجرين في ستيتن آيلند وطالبوا بإخراج الجميع وأحرقوها خوفاً من انتشار الحمى الصفراء بينهم.
ومنذ ظهور فيروس كورونا، تم تسجيل مئات الحالات من الأحداث العنصرية ضد الآسيويين بشكل عام والصينيين بشكل خاص في أوروبا والولايات المتحدة، وتراوحت بين الاعتداء اللفظي العنصري والاعتداءات الوحشية، على أساس أن الفيروس نشأ في الصين، وامتلأت منصات التواصل الاجتماعي بالمنشورات العنصرية ضد الصينيين وعاداتهم الغذائية ونظافتهم الشخصية بصورة احتاجت لإنشاء صفحات على ويكيبيديا لتسجيلها.
وعن ذلك يقول المؤرخ الأمريكي الشهير مايك ديفيس: “في عالم منطقي وعقلاني تماماً، قد تفترض أن الوباء سوف يغذي التضامن بين البشر.” وبالنسبة لديفيس الذي ألف كتاباً عن تهديد إنفلونزا الطيور عام 2005، تمثل الأوبئة نموذجاً مثالياً على نوعية الكوارث التي لا يمكن أن تتصدى لها الرأسمالية لأنها لا تجيد سوى حسابات الربح والخسارة.
وعما يحدث على الأرض الآن يقول ديفيس: “في عالم منطقي وعقلاني، سيكون تركيزنا الوحيد الآن هو التسريع الفوري لإنتاج الإمدادات الضرورية الأساسية مثل اختبارات الكشف عن الفيروس والكمامات وأجهزة التنفس -ليس فقط من أجل الأمريكيين ولكن من أجل الدول الأكثر فقراً- لأنها معركة واحدة نواجهها جميعاً. لكنه ليس بالضرورة عالماً عقلانياً أو منطقياً، لذلك توجد دعوات متصاعدة للانعزالية والانكفاء وهو ما قد يعني مزيداً من الوفيات ومزيداً من المعاناة حول العالم”.
الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يركز دائماً على أنه “فيروس صيني”، ويستغل الوباء لتشديد الرقابة على الحدود وتقليل أعداد الساعين للجوء – وكلها تقع ضمن أجندته السياسية في عام الانتخابات. كما أن كثيراً من المشرعين الجمهوريين يروجون لنظرية المؤامرة بشأن كون فيروس كوفيد-19 سلاحاً بيولوجياً صينياً.
وفي المقابل، تسعى الصين لاستغلال الوباء لفرض هيمنتها على العالم من خلال ما بات يعرف بـ “دبلوماسية الكمامات”، في إشارة للمساعدات الصينية لدول مثل إيطاليا وإسبانيا وغيرهما، والتي تصاحبها دعاية صينية مكثفة يتهمها البعض بأنها محاولة للتستر على تسبب بكين في انتشار الفيروس عن طريق محاولة التغطية على الحقيقة بشأنه.
فرصة للأنظمة
لا يتوقف الجانب السيئ للكوارث عند هذا الحد، بل إن الأنظمة الحاكمة دائماً ما تستغل الأزمات الكبرى والكوارث لفرض مزيد من السيطرة على الشعوب، والأمثلة هنا لا تتوقف عند الأوبئة بل تتخطاها إلى الحروب والكوارث الطبيعية؛ فقد استغلت الولايات المتحدة الهجمات الإرهابية في 11 سبتمبر/أيلول 2001، لتوظيف أنظمة مراقبة واسعة المدى وربحت من وراء ذلك شركات اتصالات وتكنولوجيا مليارات الدولارات، وهذا ما يحدث الآن أيضاً في ظل مكافحة وباء كورونا، ولكن ليس في الولايات المتحدة وحدها بل في كل دول العالم تقريباً.
رئيس وزراء المجر ونظيره الإسرائيلي يتمتعان الآن بسلطات شبه مطلقة لتتبع المعرضين للعدوى وحامليها، بينما حصل رئيس وزراء بريطانيا على تفويض مطلق خول بموجبه رجال الشرطة بالاعتقال الفوري لمن يشتبه في أنه حامل للعدوى (هل رجال الشرطة أصبحوا أطباء أو متخصصين في الصحة فجأة؟)، وإذا كان ذلك هو الحال في أنظمة ديمقراطية، فلا مجال للدخول في تفاصيل بشأن ما نفذته الصين وتنفذه روسيا على سبيل المثال لمكافحة الفيروس.
وعن ذلك تقول الباحثة شوشانا زوبوف مؤلفة كتاب “عصر المراقبة الرأسمالية” أنه بينما يتم تطبيق إجراءات تتبع صارمة ضرورية بالقطع لمكافحة فيروس شرس وسريع الانتشار مثل كورونا -وهذا هو الغرض الوقتي والضروري- علمتنا كل دروس الماضي أن أنظمة التتبع والمراقبة والسلطات المطلقة يتم توظيفها لأغراض أخرى تماماً وتتحول من إجراءات طارئة وضرورية إلى طويلة الأمد وطبيعية.
هل هناك جانب إيجابي نتوقعه مما بعد كورونا؟
أرجو ألا تكون قد توقفت عن القراءة قبل أن تصل لهذا الجزء، فهناك مدرسة أخرى من المفكرين تنظر للكوارث بمنظار أكثر إيجابية وتفاؤلاً. هذا المعسكر يرى أن الأزمة المالية عام 2008 تمثل نموذجاً جيداً لما يتوقعونه لعالم ما بعد وباء كورونا، على الرغم من أن الغالبية العظمى تخلت عن معظم ما لديها مقابل تكديس أرباح قلة قليلة من جراء أزمة 2008 المالية، إلا أن كارثة كورونا فتحت الباب على مصراعيه أمام التقدم السياسي.
الكاتبة الأمريكية ريبيكا سولنيت، وهي واحدة من ألمع دارسي تأثيرات الكوارث في عالمنا المعاصر، تقول إن “الأفكار التي كانت تبدو يسارية لمعظم الناس أصبحت أكثر منطقية لدى الغالبية، وهناك الآن فرصة للتغيير لم تكن موجودة قبل هذه الكارثة الوبائية”.
والمعادلة التي يؤمن بها أصحاب هذه المدرسة بسيطة؛ كشف فيروس كورونا أن النظام السياسي الحالي لم يعد يصلح، فحتى قبل أن تفجعنا كارثة كورونا فقد الآلاف من البشر حياتهم ووظائفهم بسبب أمراض معروفة وكان يمكن معالجتهم وبسبب قرارات سياسية كارثية أثرت على الاقتصاد دون ضرورة، اللهم إلا كونها تصب في صالح فصيل رأسمالي مقرب من صاحب القرار.
لكن كل ذلك كان يحدث ببطء ودون هستيريا جماعية وكأنها كوارث “تحت السيطرة” دون أن تؤثر على تغيير الحالة المزاجية العامة عند غالبية البشر الذين يواصلون حياتهم اليومية دون شعور بالخطر المحدق، وبالتالي يتغلب شعور الرغبة في الحفاظ على الوضع الراهن وكأنه لا يوجد له بديل.
وعلى مدى عقود كان التفكير السائد في كل المجالات والذي تروج له السياسات الرأسمالية هو أن تدخل الحكومة “غير مطروح” وأن “قواعد السوق الحرة” هي الحل النموذجي، من الخدمات الصحية للإسكان وحتى المتطلبات الأساسية للمعيشة، وهذا ما جعل القواعد التي فرضتها الشركات الكبرى التي يقف وراءها الرغبة لتحقيق الربح فقط وليست الشعارات “التي عفا عليها الزمن – في رأي منظري الرأسمالية” مثل “المصلحة العامة”.
الآن بالطبع انقلب كل ذلك رأساً على عقب بفعل جائحة كورونا، وبالتالي ليس مقبولاً أن يكون الهدف هو مواجهة الفيروس والقضاء على خطره بسرعه حتى تعود الأمور إلى ما كانت عليه سابقاً. عفواً، هذا لم يعد مقبولاً الآن، فالأمور لم تكن جيدة قبل الوباء حتى تكون عودتنا إليها هدفاً من الأساس.
إننا لا نشاهد فيلماً، بل نكتب مشاهده معاً
تميل الأنظمة، بحسب يولنيت في كتابها “جنة بنوها في الجحيم”، إلى اعتبار الكوارث مجرد محطات يظهر خلالها أسوأ ما في البشر، لذلك يديرون الأزمة على أساس أن الشعب جزءاً منها ويتخذون إجراءاتهم على هذا الأساس، بدلاً من أن يكون الشعب حجر الزاوية في التصدي للكارثة، وهذا يدل على عدم كفاءة الأنظمة وليس عدم قدرة الشعب على التصرف بشكل مسؤول.
وقد ركزت الكاتبة الكندية ناعومي كلاين في كتابها “مبدأ الصدمة” على الجانب الأسود لسياسة الأزمات التي تطبقها الأنظمة، حيث قسمت الكوارث إلى “كارثة 1: الزلازل والعواصف والصراعات المسلحة والكساد الاقتصادي” والكارثة 2: الأمور السيئة التي يقوم بها أصحاب السلطة لأغراض شخصية بينما يكون الشعب غير قادر على ملاحظة تلك الأمور وهو في النهاية من يدفع ثمنها.
الخلاصة هي أن العالم كله ينتابه شعور غريب هذه الأيام، ولكن ليس فقط بسبب سرعة التغيير أو احتمال أن يصاب أي شخص بالعدوى في أي لحظة وأي مكان أو احتمال أن يكون حاملاً للفيروس دون أن يعرف، بل لأن الأسابيع القليلة الماضية قد كشفت حقيقة أن أي شيء وأكبر شيء وأكثر الأمور ثباتاً قد تتغير طول الوقت وفي أي لحظة. وهذه الحقيقة البسيطة، رغم كونها مثيرة للقلق ومحررة في الوقت نفسه، إلا أنه من السهل أن ننساها. إننا لا نشاهد فيلماً؛ بل نكتب مشاهده معاً حتى نهايته.