محمد الخلف/ نقلاً عن المدن
فقد تنظيم “الدولة الإسلامية”، الثلاثاء، آخر شبر كان يسيطر عليه، من الأراضي الواسعة التي أعلن عليها “دولة الخلافة” لأكثر من أربع سنوات. معركة أخيرة، طويلة ودامية في منطقة بالغة الرمزية، جرت في قرية الباغوز الواقعة على الحدود العراقية-السورية، التي ألغاها التنظيم طوال سنوات سيطرته، متحدياً النظامين الإقليمي والدولي.
هجوم المُحاصَرين الأخير
كانت قوات “التحالف الدولي” قد حسمت خياراتها، ومنحت عبر قناة التفاوض الميدانية لمن تبقى من عناصر “داعش” في مخيم الباغوز مهلة أخيرة مدتها يومين، بدأت اعتباراً من صباح السبت 16 آذار/مارس. لكن عناصر التنظيم هاجموا “قوات سوريا الديموقراطية” بشراسة، بدل أن يستسلموا.
الهجوم الذي اطلقته “داعش” من داخل الجيب الصغير المحاصر، كان من المفترض أن يتزامن مع موجة عمليات أمنية وعسكرية لخلاياها النائمة في مناطق سيطرة “قسد”. المتحدث باسم “داعش” الملقب بـ”أبو السن”، كان قد طلب تنفيذ تلك العمليات في تسجيل صوتي له، لكن الهجمات كانت محدودة التأثير للغاية. المحاصرون في الباغوز، نجحوا حينها باستعادة العديد من النقاط التي خسروها، وقتلوا 35 عنصراً من “قسد” وجرحوا أضعاف ذلك. ولم يتمكن طيران “التحالف” من القيام بالمساندة الضرورية، بسبب تداخل خطوط الاشتباك وعدم القدرة على التمييز بين المقاتلين.
الأرض “المحروثة”
استدعت “قسد” رصيدها الاحتياطي من القوات، وتمكنت من تثبيت الموقف، ليل السبت/الأحد، ولم تسمح بخرق الطوق المفروض على جيب الباغوز. صباح الثلاثاء، شنت طائرات “التحالف الدولي” والمدفعية هجوماً هو الاعتى على المنطقة، إذ تناوبت 5 طائرات مقاتلة على قصف المكان المطوق لساعات، واتسمت حركتها بالانتظام. طيران “التحالف” نفّذ عملية حراثة، حرفياً، لمنطقة لا تزيد مساحتها عن كيلومتر مربع واحد. إذا لا يعرف أحد مكان اختباء عناصر التنظيم، ولا ما نصبوه من فخاخ وألغام. استراتيجية التعامل مع الجيب الأخير في مخيم الباغوز، كانت ” قلب التربة”، للتأكد من عدم وجود دواعش تحتها، أو مفاجآت من أي نوع. وسارع نحو 100 داعشي، معظمهم من المصابين، إلى تسليم أنفسهم.
عصر الثلاثاء، توقفت أصوات الانفجارات العنيفة، ولم يعد يسمع أي صوت في المكان، بما في ذلك أنين المصابين. الجميع كان تحت الصدمة، بما في ذلك عناصر “قسد”، الذين زج بـ1500 منهم، لتمشيط المخيم، تتقدمهم أربع كاسحات ألغام. وكانت الأوامر هي قتل الجميع، وعدم قبول استسلام أحد، خشية الوقوع بكمائن، أو تفجير دواعش لأنفسهم بمقاتلي “قسد”.
تم تمشيط المخيم من الشمال إلى الجنوب حيث نهر الفرات، وشوهد دواعش وهم يفرون باتجاه البساتين والمزارع القريبة من النهر، حيث اختفوا هناك. ولحق بهم عناصر من “قسد” إلا أنهم فشلوا في العثور عليهم.
وعُثِرَ على عشرات الأطفال وعدد كبير من النساء، من عائلات التنظيم أحياءً، بين نحو 350 جثة متفحمة أو ممزقة لأطفال ونساء ورجال. وخرجت امرأة من بين الجثث والمصابين، لتفجّر نفسها، مع اقتراب عناصر “قسد” من المكان، لكنها لم تصب أياً منهم. طفلها الصغير الذي كان برفقتها، نجا أيضاً من الموت بأعجوبة.
قامت “قسد” بإرسال شاحنات لإجلاء النساء والأطفال، نقلت الجرحى، ومعظمهم اصاباته بليغة للعلاج في النقاط الطبية العسكرية.
الأميركيون يدخلون الميدان
مُنِعَ عناصر “قسد” من لمس أي شيء، وحُصِرَت مهمّتم بالتأكد من خلو المكان من الأخطار، ثم انسحبوا إلى نقاط ارتكاز على أطراف المخيم. عند ذلك دخلت مجموعات من قوات “التحالف”، برفقة مجموعة من قيادات “قسد” حضرت من القامشلي خصيصاً لهذه المناسبة. ولم تُعرَف مهمة هذا الفريق، لكن مصادر “المدن” أشارت إلى استخدامه أجهزة تنقيب، وأجهزة كشف معادن، مثل تلك المستخدمة للبحث عن الألغام.
المفقودون.. ما زالوا لغزاً
كانت فحوى المهلة الأخيرة التي منحها “التحالف الدولي” لـ”داعش” هي تسليم الأسرى والمختطفين لديه، مقابل الاستسلام فقط. فيما كانت مطالب عناصر التنظيم، هي نقل من تبقى في الباغوز إلى وجهة أخرى. وهو ما لم تقبل قوات “التحالف” بمناقشته. وكانت المعلومات الاستخباراتية لدى “قسد” تشير إلى وجود المختطفين في نفق ما تحت الأرض في تلك البقعة المحاصرة. لكن بعد اقتحام المخيم وتمشيطه، لم يُعثر على أي شخص منهم، ولا يعرف أحد حتى الآن أين اختفوا.
مصادر “المدن”، أشارت إلى خروج مجموعة من المُحاصَرين، الأحد صباحاً، بدا وأنهم مهمون للغاية، فقد حضرت قوة خاصة أميركية لتتسلمهم، واحضرت معها 9 سيارات فان لتقلهم، بينما كانت ترسل في العادة شاحنات عادية لإجلاء العناصر المستسلمين. وقد انتقلت تلك السيارات المغلقة بحماية رتل اميركي إلى مكان مجهول.
ما هو مخيم الباغوز؟
بعد انتهاء المعارك، تبين أن مخيم الباغوز، الذي شكل لغزاً محيراً، ما هو إلا حفر عملاقة حفرت حديثاً بواسط بلدوزرات، بعمق نحو ثلاثة أمتار، تحيط بها سواتر ترابية، ومئات الآليات المعطلة او المحترقة، تجمعت فيها عائلات التنظيم، التي قام بعضها بحفر خنادق إضافية والاختباء فيها، بعد تغطيتها بخيم وقماش. وتخفي كل خيمة ممزقة من تلك الخيم التي تشاهد في الصور المأخوذة عن بعد، ما يشبه منزلاً صغيراً محفوراً في التراب. وقد وُجدت مستلزمات عيش بسيطة مثل مواقد غاز وبعض الأطعمة والاغطية والأدوية، في المكان.
ووجدت أيضاً كميات هائلة من الاسلحة، خاصة الفردية، وذخائرها، مخزنة في خنادق محصنة جيداً، كما عثر على طائرات مسيرة حديثة، تستخدم للمراقبة، وأجهزة اتصالات فضائية.
حصيلة أولية ونتائج غير نهائية
تُقدر مصادر “المدن” عدد القتلى في ميدان العملية بنحو 350 شخصاً. وقد شوهد بين الجثث عدد لا يستهان به من الأطفال والنساء، إضافة إلى مقاتلين. وشوهد على من لم يكن محترقاً آثار جراح بليغة تلقوها في معارك الايام القليلة الماضية. وتكشف عمليات القصف إن القرار كان بقتل كل من يتحصن هناك، وأن نجاة البعض حدثت بمحض الصدفة. ومن يعاين المشهد بعد نهاية المعركة، لا يمكنه أن يصفها سوى بأنها “مجزرة الباغوز”.
مقاتلو “قسد” تبادلوا التهاني بفتور بعد المعركة، فهم يعلمون جيداً أن “داعش” قد انبعث في مناطق سبق وطردوه منها قبل أكثر من سنة، وقتل العشرات من زملائهم. وهم يعلمون جيداً أن المعركة لم تنته فعلياً، وأن عليهم الاستعداد لمعركة أمنية طويلة مع التنظيم الذي زال كشكل مجسد، ربما إلى الأبد. لكن شبح “داعش” ما زال يتحرك، تاركاً أثاره المحسوسة في معظم مناطق سيطرته السابقة.