عمر قدور
لعل القذافي يكون مسروراً في قبره، فقد انضم إليه بوتين كثاني حاكم تُعلَّق عضويته في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة. شاءت المصادفات أن تكون ليبيا عضواً في المجلس عندما اندلعت الثورة ضد القذافي، وأن تكون روسيا عضواً فيه بينما يشن بوتين حربه على أوكرانيا، والمصادفات ذاتها كادت يوماً ما أن تضع بشار الأسد في الموقع ذاته إذ كان قد تقدم بطلب للحصول على مقعد من بين أربعة ممثلين عن آسيا. حينئذ، في نيسان 2011، ضغطت أوروبا في المقام الأول لمنع وصوله إلى المجلس، بينما كانت الحكومات العربية بمجملها داعمة له.
العقوبات المتدحرجة على رأس بوتين تتخذ مع قرار الجمعية العامة الأخير تعليق عضويته في مجلس حقوق الإنسان بعداً أقسى معنوياً من العقوبات الغربية المتسارعة، فهو في الحالة الأخيرة لا يُعاقب كخصم للغرب؛ إنه يُعاقب في الأمم المتحدة على منوال ما يلاقيه حكام أتفه شأناً. على الصعيد الشخصي، لن يتأثر بوتين بالعديد من العقوبات الاقتصادية “المؤثرة حقاً على روسيا” بقدر ما تتأذى صورته بوضعه كمارق صغير لا يحق له ارتكاب الجرائم بلا مساءلة على النحو المُباح للكبار، وحتى إدانة الجمعية العامة الغزو الروسي لأوكرانيا قبل أربعين يوماً لا تُعدّ تحقيراً على منوال قرارها يوم الخميس المتعلق بمجلس حقوق الإنسان.
كان بوتين قد تربع سريعاً على عرش العقوبات الغربية، متقدماً على حكام إيران وكوريا الشمالية وعلى بشار الأسد. الحجم الضخم للعقوبات يرجع نسبياً إلى حجم روسيا، وإلى علاقاتها الاقتصادية كدولة بالمنظومة الدولية، فضلاً عن انتشار ثروات وأعمال الأوليغارشية الحاكمة في العديد من دول الغرب. إلا أن حدة العقوبات والديناميكية السريعة للاتفاق عليها تلغي ذلك الفارق النسبي، ليكون بوتين مستهدفاً بأقوى مما استُهدف به حكام أقل شأناً.
على نحو خاص، لم تتوقف المقارنة بين سوريا وأوكرانيا، وهي مقارنة تحيل في أحد جوانبها إلى المقارنة بين الجرائم المرتكبة في أوكرانيا ونظيراتها في سوريا، ولا يندر أن تأخذ طابعاً شخصياً فتستدعي المقارنة بين بوتين وبشار. ورغم ما هو معروف عن المظلة التي تولى بوتين تقديمها لجرائم بشار، يبدو الثاني محظوظاً أكثر من الأول الذي حظي بسماح غير معلن افتقده بوتين في مغامرته الأوكرانية.
قيل الكثير عن التمييز بين السوريين والأوكرانيين بناء على الموقف الغربي الحازم من غزو أوكرانيا، على عكس الموقف المتواطئ من التدخل العسكري الروسي في سوريا. المؤسف أن هذا الشعور بالظلم لدى السوريين مبرر تماماً، وخطأ بوتين أنه لم يدرك الفرق بين حريته في التصرف ضمن مناطق تُعدّ أرضاً للإفلات من العقاب ومناطق أخرى لا يتطبق عليها ذلك. هو أيضاً، على صعيد متصل، لم يتصرف بموجب موقعه المقبول غربياً، أي كشريك لا يليق به التصرف على شاكلة طاغية من مجرمي “البلدان المتخلفة”، خاصة وهو يطمح ليكون قطباً دولياً.
شئنا أم أبينا، ثمة تراتبية تحكم وتتحكم في العقل السائد، فما هو مقبول في بلدان مثل بلدان المنطقة العربية وأجزاء واسعة من أفريقيا وآسيا غير مقبول في أوروبا، ما يقتضي التمييز بين الضحايا والتمييز بين المرتكبين أيضاً. هذا التمييز يدحض فكرة توريط بوتين في أوكرانيا، من دون التوقف عند كونها تشيطن الغرب وتضع “المتورط” في موقع الغفلة، فألمانيا وفرنسا مثلاً نسجت صداقات حارة مع حكم بوتين، وواشنطن لم تكن تمانع أن يكون قطباً لا ينافسها بقدر ما يشوش على تقدم المنافس الصيني.
في الإطار ذاته تؤخذ الصحوة الغربية المستجدة حيال الجرائم المرتكبة في سوريا، فالغاية هي مزيد من تجريم بوتين، فلا المجرم الأول المحلي في الحسبان، ولا ضحايا جرائم الحرب والإبادة سيحصلون على شيء من الإنصاف المعنوي قبل العملي. لمناسبة مجازر بوتشا وما قبلها، سرعان ما علت أصوات غربية تطالب بمحاكمة بوتين، وقبل انكشافها عبّر الرئيس الأمريكي صراحة عن رأيه “الشخصي” بأنه لم يعد يصلح للاستمرار رئيساً لروسيا. في المقابل، أقصى ما ذهبت إليه التصريحات الأمريكية، التي يُفترض أنها صارت أكثر حزماً في الشأن السوري، هو القول أن على بشار الأسد التوقف عن ارتكاب الجرائم والالتزام بعدم تكرارها. بعبارة أوضح، لا كلام “مجرد كلام” عن المحاسبة، والرسالة موجهة أصلاً إلى بوتين، بينما يستطيع بشار النوم مطمئناً إلى عدم جدية التصريحات.
المواجهة غير المتوقعة بين الغرب وبوتين لم تأت بتغييرات في رؤى الغرب، ومنها أن واشنطن لن تتراجع عن انسحابها المعلن من فكرة التشجيع على انتشار الديموقراطية، ولا يزعجها وجود مستبدين صغار هنا وهناك “خارج المركز الغربي” فالتين من أي رادع أو عقاب. لذا ستكون الخشية مبررة من أن تعزز الضغوط على بوتين بسبب أوكرانيا فكرة تقسيم العالم واقتصار العقاب على جزء منه، بما يعطي الضوء الأخضر مجدداً لطغاة صغار.
ستصب في هذا المنحى التحليلات التي تقول أن صمت الغرب على تدخل بوتين في سوريا جعله يطمع في أوكرانيا، فهي أيضاً تحليلات تُسقط من الحساب فداحة الجرائم التي ارتُكبت في سوريا بمعزل عن بوتين. وهي في حدها الأقصى تحاول الاستثمار في المواجهة الراهنة، مع نقص الانتباه إلى ترابط الأمن والاستقرار الدوليين مروراً بمؤثرات عابرة للحدود مثل اللاجئين، ومثل التأثير المتبادل بين الإرهاب الجهادي وأحزاب اليمين المتطرف الأوروبية.
في المحصلة، لا يهم تحقير بوتين في الأمم المتحدة ومعاملته كالقذافي، فالمهم هي المحاسبة على ارتكاب الجرائم، بل منع حدوثها كلما كان ذلك متاحاً. تالياً، ينبغي ألا تكون الإهانة بديلاً عن العقاب، وهذا ما خبرته شعوب المنطقة بطغاة يُنظر إليهم دولياً بازدراء مع إطلاق يدهم داخلياً وكأن الشعوب تستحق هذا الصنف من الازدراء وما يبنى عليه من انعدام الحساسية إزاءها. لا عزاء بهزيمة بوتين، إذا كان بشار سيخرج منتصراً، بل ويشارك في سره الشماتة بالمهزوم الذي طالما تعمد إذلاله.
المصدر: المدن