جسر: رأيكم:
تضايق أخي “علاء” من ضيفي الثقيل “ميم” لتبلد شعوره و عدم فهمه إشارات السأم، قال له بعد منتصف الليل:
- هيا بنا نتشمس خارج البيت.
رد ميم ببلادة وهو يتثاءب:
- لكن الدنيا منتصف الليل ولم تطلع الشمس بعد.
- الشمس التي أدعوك للسهرة تحت أشعتها مشرقة في الشارع خارج البيت، هيا تعال معي لتراها بأم عينك.
خرجتُ وضيفي أبن الجيران ميم البليد، مع أخي علاء إلى الشارع الخالي من الحركة والناس نيام، قال الضيف غير المرغوب به ميم:
- أين الشمس يا علاء؟ إني لا أراها.
سحبه أخي علاء من يده إلى عمود الإنارة قرب باب بيتنا، وأشار له إلى المصباح الأصفر العتيق المنير بخجل و كسل، قال له:
- تعال قف تحته، هذا ضوء الشمس، اسهر تحته بقدر ما شئت، أنا وأخي “جهاد” سنعود للنوم في البيت، غداً يوم السبت وعندنا مدرسة منذ الصبح.
- آه! فهمت عليك، قل هذا من قبل، كنت قعدت معكم ساعتين ثلاثة و انصرفت. يا الله روحوا ناموا وعن خاطركم ليوم الغد.
هذه الليلة في منتصف سبعينات القرن الماضي مازلنا نتذكرها حتى اليوم، ليس كلانا (أنا وأخي) فقط بل كل أفراد العائلة الذين علموا بها ثاني يوم من فم أخي علاء مع بعض البهارات، وإطلاق الألقاب على ضيفي ميم المتبلد الحَسّ مثل “شيخ الملل وخروف السأم”.
ومن يومها صار يفهم رفيقي ميم أن عليه الإنصراف متى قال له أخي علاء: هيا نسهر تحت ضوء الشمس!
لم أكن وحدي أعاني من صحبة هذا النوع الثقيل من الضيوف، فقد كبرت و لم أتخلص من رفيقي ميم، الذي ظل يلاحقني بظله الثقيل بعد زواجي، حتى زوجتي نالها سخط التعرف عليه، ونفد أولادي وربما أحفادي من نقمة معرفته لحسن حظهم، لكننا و لسوء حظنا ابتلينا بمن هو أشد بلادة من السيد ميم، لدرجة يمكنني وصفهم بالوقحين عديمي الحَسّ، كنت اضطر لطلب إنهاء زيارتهم لي في البيت أو المكتب، و كنت أفعل هذا عملاً بالتقليد الحلبي الشعبي المشهور للتخلص من غير المرغوب بهم، إذ يقول البائع لزبونه ثقيل الدم : “خيو المحل إلك بس اوهبني إياه”.
و على سيرة بليدي الإحساس، عاصرت مثلاً بطلاً قومياً حارب الفرس واحتلّ دولة عربية، زعم نفسه بطل العرب، وأقوى من عنترة بني عبس، وحين حاصره حلف الأعداء من الجيران والشمال والغرب، ترك بلاده لمصيرها واختبأ في جحر كالفأر، عثروا عليه وصوروه في ثوب الذل، لكنه لم يفهم الدرس حتى آخر نَفَس على حبل المشنقة في عيد الأضحى، وكان ضحية عناده وبلادته قبل كل شيء.
كما عاصرت وعرفت مثله بطل العرب والأفارقة، ملك الملوك أبو النياشين والنخيل والخيام، بطل الحسام والكلام والحسن، صاحب مقولة “من أنتم؟” حين ثار عليه الشعب، لكنه لم يفهم شعبه من يكون، وظل متمسكاً بعرشه وعناده حتى وجدوه في الصحراء يلتمس الرحمة كالمجرم في قفص الاتهام، ولم تجدِه نفعاً توسلاته ولا وسائله في الهروب من نور الشمس.
يقولون إن اللبيب من الإشارة يفهم، وكم غادرتُ مجالساً بكرامتي قبل أن أحتاج إلى الإشارة أو التلميح، فما بالك عزيزي القارئ بمن لا يفهم من الكلام الصريح؟ لا تستغرب كلامي و انظر إلى خارطة الوطن العربي، كم من الحكام رفض تصديق أن الشعب يريد؟ استثني واحداً منهم فقط أدرك سريعاً أنه:
إذا الشعب يوماً أراد الحياة
فلا بدّ أن يستجيب القدر!
وقال “الآن فهمتكم” وطار على جناح أول طيارة.
لكن معظمهم مازال ينكر إرادة شعبه، ولم يستوعب الدرس، ظنوا أن الربيع العربي مات واندثر، فأزهر هذا العام ٢٠١٩ في خمسة بلدان عربية من الشرق إلى الغرب، وفي المنتصف مصر البهية تصرخ اليوم من جديد في وجه العسكر: “الشعب يريد إسقاط النظام”.
أنا أستغرب مثلكم هذا الطويل الكريه، الذي، ومنذ تسع سنوات، يتلقى الإهانات والشتائم والتحقير و”التحشيك” والقذف بالصرامي و.. و… سمع شعبه يقول له بالعربي الفصيح: “يا الله إرحل يا جزار”.
فضحك ضحكته البلهاء، وقال: عفواً لقد اختارتني لحكمكم السماء، أود لو أني أترك الحكم لغيري من الحكماء، وأعيش كأي مواطن خنوع مع زوجتي الحسناء، نطبخ البرغل ونحتسي الحساء، وأمارس مهنتي كالرجال كما أمارس الجنس، لكن هكذا أراد لي أبي بعد أن صعدت روحه إلى السماء، فهل أصدق هذا الهراء: قال الشعب يريد قال؟!.
٭العبارة هي عنوان فيلم فرنسي كوميدي للفنان بيير ريتشارد، استعرتها كعنوان للنص رغم تصنيفه كنوع من الكوميديا السوداء.