جسر: رأي:
في خرقٍ للسائد والموروث في السودان، وقَّعَت الحكومة السودانية، اتفاقاً مع الحركة الشعبية لتحرير السودان – قطاع الشمال، يقضي بتضمين “مبدأ فصل الدين عن الدولة” في الدستور السوداني. وإذ تعد هذه الخطوة خطوةً جذريةً في واقع السودان المتناقض، وسبيلاً للوصول إلى الدولة المدنية، فإنها تعد ضروريةً لإنهاء الحرب الأهلية وضرب مسبباتها ومعالجة جذورها وتحقيق السلام المستدام، وهو الشرط الرئيس لتحقيق الاستقرار والتنمية في هذا البلد، تنفيذاً للمهمات التي حددتها أجهزة الدولة لتحقيقها، خلال الفترة الانتقالية عملاً بالوثيقة الدستورية. كما قد تصبح دافعاً لتحريك الركود التشريعي في البلدان العربية، التي بات واضحاً أنه لن يُقدَّر لها الخروج من واقع التخلف والاستبداد، إلا إذا تجرأت واتخذت خطواتٍ مشابهة.
فبعد توقيع اتفاق السلام في جوبا، بين مجلس الحكم الانتقالي وعددٍ من الحركات المسلحة السودانية، في 31 آب/ أغسطس 2020، وقع رئيس الحكومة السودانية، عبد الله حمدوك، وزعيم الحركة الشعبية لتحرير السودان –شمال، عبد العزيز الحلو، في أديس أبابا، في 3 أيلول/ سبتمبر، اتفاقاً حول شكل الحكم المقبل في السودان، ينص في إحدى فقراته على تضمين “مبدأ فصل الدين عن الدولة” في الدستور السوداني. وإذ يعدُّ اتفاق السلام ضرورة كبيرة لإنهاء حالة الانقسام في البلاد، والتأسيس لمرحلة يسودها السلام للتغلب على التحديات الاقتصادية والاجتماعية والأمنية التي تواجه السودان، فإن الاتفاق الثاني يعدُّ ضرورةً للحفاظ على هذا السلام دائماً، وعلى وحدة البلاد، كونه يؤسس لدولةٍ مدنيةٍ تحفظ حقوق فئات المجتمع السوداني ومكوناته من دون تمييز، ما يعني منع حدوث صراعاتٍ مستقبليةٍ على خلفياتٍ إثنيةٍ أو دينيةٍ أو حتى سياسيةٍ.
فتلك الصراعات هي ذاتها التي أدت إلى انفصال الجنوب على أساس إثني وديني، وتكوين جمهورية جنوب السودان المستقلة التي قرَّر قادة حركاتها المسلحة المتمردة الانفصال، عام 2011، وتشكيل حكم على أساس علماني ومدني، بسبب رفض حكومة الرئيس المخلوع، عمر البشير، إقرار شكل حكمٍ كهذا يضمن مساواة الجميع ويمنع التفرقة في الحقوق والثروة والسلطة. وفي حين رأى بيان الاتفاق بين حمدوك والحلو وجوب إقرار مبدأ فصل الدين عن الدولة “لكي يصبح السودان بلداً ديموقراطياً حيت يتم تكريس حقوق جميع المواطنين”، لفت إلى أنه “في غياب هذا المبدأ يجب احترام حق تقرير المصير”، وهو التحدي الكبير الذي سيواجهه السودان وسيكون عودة إلى المربع الأول الذي سبق اتفاق السلام، وربما ثورة ديسمبر 2019 الشعبية، أي الانفصال، كون الحركة الشعبية من أكبر الفصائل المسلحة التي تهدد بانفصال جنوب كردفان والنيل الأزرق. كما يمكن أن يتكرَّس مبدأ الانفصال لدى الجميع وتفضيله على مبدأ إعادة توحيد البلاد الذي يطمح له كل السودانيين. ومن هنا يبرز الدور الذي يمكن أن تلعبه القوى المدنية واليسارية التي أطلقت ثورة ديسمبر، في إمكان تغييرها الدستور لضمان وصول البلاد إلى بر الأمان.
تبعاً للوثيقة الدستورية، كان من المفترض “إحلال السلام” في مناطق النزاع بعد ستة أشهر من إقرارها، لكن الأمر تطلب سنة من المفاوضات الصعبة من أجل الوصول إلى اتفاقات مبدئية لإحلال السلام، والسبب حرص الطرفين على الوصول إلى سلام يُبنى على أسس معالجة جذور الأزمة التي مهَّدت للحرب وكرست التمييز. كذلك بسبب تركة النظام القديم التدميرية وتجاربهم معه خلال الحرب الأهلية التي امتدت في عهد البشير لمدة 17 عاماً، وقبله مع جميع الأنظمة التي حكمت السودان بعد الاستقلال. فمنذ الاستقلال، تحاول المكونات العرقية والدينية في الجنوب، والتي تتوزع بين أتباع الديانتين المسيحة والإسلامية وأتباع الديانات الأفريقية والوثنيين، التوصل إلى إقرار دستور لا ينص على دين دولة السودان الموحد في بنوده فلا يغلِّب فئة على أخرى تبعاً لدينها أو عرقها أو لغتها وثقافتها، لكنها لم تفلح. إذ تصرّ الديكتاتوريات المتتالية على نزعة تغليب إرادة القوي، فرضت صوت المكون العربي الإسلامي على الجميع في مجتمعٍ بالغ التنوع العرقي والديني والسياسي والثقافي. ولم تستطع تلك الحركات بالحوار أو بقوة السلاح دفع الخرطوم إلى إيجاد البديل عبر تغليب إرادة التعاون بين كافة مكونات المجتمع السوداني
وتعود جذور الصراع والحاجة إلى دولة مدنية تمنع التمييز على أساس العرق والدين واللغة، علاوة على التمييز الاقتصادي والإفقار، إلى فترة الاستقلال الأولى. فبعد سنتين من الاستقلال، أي عام 1958، حاول الرئيس السوداني تذويب المكون الجنوبي من دون مراعاة الفوارق، ما دفع الجنوبيين للمطالبة بالاستقلال، وظهرت حركات مسلحة فرضت عبر كفاحها الطويل على السلطة إعطاء الجنوبيين حكماً ذاتياً في إطار السودان الموحد. وكان ذلك من خلال اتفاق أديس أبابا، عام 1972. لكن عام 1983 أطاح الرئيس الراحل، جعفر النميري، الاتفاق. وأدى هذا إلى احتدام الصراع وتأسيس الحركة الشعبية لتحرير السودان التي رفعت هدف تأسيس سودان علماني موحد يحقق المساواة في المجالات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. لكن بعد الإطاحة بالنميري، عام 1985، اتفق رئيس الحكومة الجديد، الصادق المهدي، مع جون قرنق رئيس الحركة الشعبية، عام 1988، على إعادة العمل باتفاق الحكم الذاتي ووقف إطلاق النار ووقف العمل بقانون الشريعة.
لكن انقلاب عمر البشير، عام 1989، وجَّه ضربة لكل الاتفاقات، وأعاد العمل بقانون الشريعة، وأطلق تصريحاً انتشر واسعاً ودمغ عهد “ثورة الإنقاذ” الإسلامية الذي قطع فيه أن: “ثورة الإنقاذ لا تعرف الفصل بين الدين والسياسة والموضوع غير قابل للنقاش”، ثم دعَّم صرامته بتأسيس ميليشيات مسلحة لمواجهة الجنوب فاقترفت جرائم حرب. وخلال حكم البشير تضاعفت حدة الصراع واندلعت الحرب الأهلية، وجرت تدخلات دولية لوقفها وعُقدت اتفاقات سلام، كانت تقوم على أسس تفتقد للجذرية في معالجة الأزمة، فلم تكن تصمد، أو كان البشير ينقلب عليها. وبقي الأمر كذلك حتى عام 2005، حين تم توقيع اتفاق إطاري أعطى الجنوب حكماً ذاتياً كفل حق تقرير المصير عام 2011. وتمَّ ذلك بموجب استفتاء وافق عليه الجنوبيون بغالبية كبيرة، ما أدى إلى جريمة تقسيم السودان إلى دولتين، جنوبية علمانية، وشمالية إسلامية، فضَّل البشير اقترافها على تأسيس دولة مدنية تكفل حقوق الجميع بغض النظر عن انتماءاتهم العرقية أو الدينية أو الفكرية، وبدد ثروات البلاد على الحروب والنزعات وشل اقتصاد البلاد وأمات الألاف من أبنائها في تلك الصراعات العبثية.
يُسجَّل لثورة ديسمبر 2019 الشعبية الوصول إلى هذه المرحلة، ولولا إصرار قوى هذه الثورة لانقلب العسكر على المجلس السيادي وأعادوا تشكيل المجلس العسكري وقوضوا تلك الثورة وعاد الصراع من جديد. غير أن قوى السودان المدينة، وإصرار شعبه الذي خرج بالثورة، دفع لتحقيق خطوات الانتقال إلى الدولة المدنية التي نشهد تموضع مداميك بنائها أمامنا. وإذ يُسجل للسودان أن هذين الاتفاقين، يعدان اتفاقين سودانيين 100 في المئة، بسبب غياب العامل الخارجي في تحقيقهما، فإنهما يُعدان تاريخيين، لأن الحكومة الانتقالية حققت في فترة وجيزة ما عجزت عن تحقيقه كل حكومات ما بعد الاستقلال. ولا يضمن استدامة هذه الاتفاقات بعد توقيعها النهائي في تشرين الأول/ أكتوبر 2020 سوى تحقيق بقية مهمات الفترة الانتقالية، من إلغاء النصوص والقوانين المقيدة للحريات، ومحاسبة أزلام النظام البائد، والإصلاح القانوني، ومعالجة الأزمة الاقتصادية وإرساء أسس التنمية المستدامة، وضمان حقوق المرأة وتعزيزها، وإنشاء آليات لوضع دستور دائم للبلاد وتفكيك بنية النظام السابق وغيرها. وإذا ما تحققت تلك المهمات، عبر إصرار قوى الثورة على تنفيذها، فإننا سنشهد ولادة سودان جديد، بعيد من سودان الحروب والنزاعات والتقسيم .