جسر: متابعات:
يُعدُّ كتاب المؤرخة ميري شيفير موسنسون «العلم عند العثمانيين» واحداً من الكتب التي تُعنى بدراسة الفترة العثمانية، والتي أُتيح للقارئ العربي فرصة الاطلاع عليها في الآونة الأخيرة، بُعيد ترجمتها للعربية. وكما تبين المؤلفة، يروم الكتابُ، الصادر عن دار ابن النديم للنشرـ ترجمة الباحث محمد شعبان صوان، إلى تبيان الروافد الاجتماعية والثقافية التي أنتجت العلم العثماني. وبمعنى أدق، فهي تهدف إلى تعريفنا بالعملية التي انهمك بها العثمانيون في المعرفة، وما هي التقنيات والقيم التي وُظِّفت في هذا السياق، وما هي مصادر العلم العثماني؟ وكيف يمكن كتابة تاريخ للعلم، لا يقتصر فقط على دراسة النصوص والمخطوطات، بل يُعنى بأسلوب من الكتابة، يهتمّ «بدراسة النشاط العلمي، بوصفه نتاج مجموعات من الناس والأفكار والأشياء، وبكلمات أخرى، فإن فعل العلم يتضمن فاعلين رمزيين وماديين وطبيعيين».
إذ ترى المؤلفة أنه بجمع جهد العلماء إلى جانب التقنيات والأجهزة والمواد يصبح لدينا معنى علمي. وسيدفع، أسلوبُ الكتابة ما بعد الإنسانية هذا، المؤلفةَ إلى تناول تاريخ المؤسسات التعليمية العثمانية، وتاريخ التقنيات التي اكتشفها العثمانيون أو استقدموها من الغرب، لكتابة تاريخ عام للعلم عند العثمانيين، بحيث يكون استكمالاً لما أنجزه فرانز روزنتال في كتابه «العلم في تجل: مفهوم العلم في الإسلام في القرون الوسطى»، الذي صدرت ترجمة عربية له كذلك قبل أسابيع قليلة.
لا أخفي، أنني وقبل الاطلاع على الكتاب كنت قد شكّلت نظرة مسبقة عنه أثناء اطلاعي على كتاب آخر في السياق ذاته المتعلق بتاريخ العلم عند العثمانيين، واعني هنا كتاب «مرصد إسطنبول»، لسامر عكاش. ولمن لا يعرف عكاش فهو أستاذ في جامعة أديلايد الأسترالية، متخصص في دراسة علم الكونيات الإسلامي قبل وبعد كوبرنيكوس، وقد بدا عكاش في هذا الكتاب غير مقتنعٍ بأجوبة عدد كبير من الباحثين حول أسباب هدم مرصد إسطنبول، بالإضافة إلى بعض المساعي التي حاولت تقديم الحراك الفكري العربي العثماني التقليدي في فترة الحداثة المبكرة على أنه مساو في الأهمية والجدارة للحراك العلمي الغربي.
وكان من بين من ناقشهم يومها باحثون مثل راشد رشدي وخالد الرويهب، وأيضا كتاب موسنسون الحالي؛ إذ خصّصت هذا الكتاب في بضع صفحات لموضوع بناء المرصد بدون توضيح كاف لأسباب هدمه، في حين نجد أن عكاش استطاع أن ينظر إلى هذه الحادثة بوصفها محطة افتراق وذات دلالة، من الناحية الرمزية في الأقل، لتزامنها مع تطورات خطرة وغير مسبوقة على الصعيد العالمي في المجالات السياسية والاقتصادية، وربما بالأخص العلمية، إذ شهد العالم أهم حدث علمي على الإطلاق، تمثّل في نظرية الرياضي والفلكي كوبرنيكوس بشأن مركزية الشمس، وهي النظرية التي غيّرت اعتقاداً راسخاً بخصوص هيكلية الكون، ساد أكثر من ألفي عام. وكان هذا الاكتشاف، كما يرى عكاش، بمثابة محطة افتراق بين المنهج العلمي الغربي والمنهج العثماني الإسلامي، إذ اختار العرب والعثمانيون الثبات على منهجهم العلمي التقليدي (وهو ما تمثّل في هدم المرصد)، في حين ظهرت في الوقت ذاته تقريباً نزعات فضولية علمية في أوروبا قادت إلى انطلاق نهج علمي تجريبي جديد وكان مقدمة لثورة علمية.
وبالعودة إلى نص موسنسون المترجم، ربما قد لا نختلف كثيراً مع رؤية عكاش على مستوى أن الكتاب ربما يكون مهماً على سياق النوايا البحثية، التي حدثتنا عنها المؤلفة في عتبة كتابها، وتتمثل في كتابة تاريخ علمي للعثمانيين، إلا أنه على مستوى المتن، بقي أقل تحليلاً وتفسيراً مما هو متوقع، فهو أقرب ما يكون لرحلة سريعة في هذا العالم؛ مع ذلك هناك إضاءات في بعض أحشاء الكتاب جديرة بالاهتمام، وبالأخص الفصل الخاص بعلاقة الدولة بالعلم والمؤسسات التعليمية في فترة العثمانيين، حيث بدت المؤلفة حذرة، من الصفحات الأولى، من تحليلات فوكو في هذا السياق، التي بالغت في التعميم برأيها، إذ يرى فوكو، في سياق قراءته لصعود فكرة الدولة الحديثة، أن الدولة الحديثة عملت على مد آليات التحكم، التي هي جزء من فن الحكم، لتشمل تنظيم المعرفة والعلم والتقنية.
قد تكون قراءة فوكو مفيدة على مستوى فهم الآليات والإجراءات التي صُمِّمت للسيطرة على سلوك الأفراد، وبالأخص في فترة القرن التاسع عشر، القرن الأطول، الذي شهد وفقاً لما يراه المؤرخ التركي جينكيز كيرلي سياسات وتقنيات ضبط جديدة حيال السكان، وهذا ما برز على صعيد التعليم مثلاً، من خلال سياسات التعليم الإصلاحية (مدارس العشائر مثلا) ومحاولة خلق نخبة عثمانية جديدة، لكن في ما يتعلق بالفترة السابقة، تلاحظ المؤلفة «أن مفاهيم فوكو تبقى إشكالية، كون الأخير وصف عملية في اتجاه واحد فقط، أي جهاز دولة يمارس الجبر من الأعلى، في الوقت الذي يجب أن نفهم التجربة العلمية العثمانية بصفتها تفاعلاً بين مجموعة فاعلين، حول جهاز الدولة». في حين تبين لنا القرون الأولى من حكم العثمانيين أن رعاة العلم كانوا يتغيرون، وأن رعاة جددا كانوا يدخلون في النظام باستمرار، وكان هذا يعني اكتساب قدرات وأدوات جديدة، كما أن وجود الوقف لعب دوراً في وجود نوع من الاستقلالية بين الراعي والعالم، وفق تعبير المؤلفة.
القارئ الشرقي المتخيل
كما ذكرنا، كتاب المؤلفة عبارة عن رحلة في شعاب العلم والتقنيات، في زمن العثمانيين، بدءاً بالمدارس، ومروراً بالرحل، وعالم الطباعة ودخول الكهرباء والترامواي إلى المدينة العثمانية، بالإضافة إلى التطرق لحيوات بعض العلماء وتجربتهم في اكتساب المعرفة والعلم ،أمثال عبد الرحمن الجبرتي. ولأن من الصعوبة بمكان، الإلمام بمسار كامل هذه الرحلة، فضّلنا التطرق لمسألة تتعلق بترجمة الكتاب، أو بالأحرى بطريقة صناعة النسخة العربية منه.
ففي مقال سابق بعنوان “عرب الإمبراطورية العثمانية وأخطاء الترجمة” تطرّقنا لمسألة كيف يساهم بعض المترجمين العرب بالاشتراك مع دور النشر، من دون قصد، في إخراج ترجمات من دون ان تخضع حتى لمراجعة من قبل محرري دور النشر، ما يؤدي، وفقاً للأنثروبولوجية نيلوفر حائري (التي درست عالم المطبوعات وحياة ثلاثة أجيال من المحررين في مدينة القاهرة ) إلى ولادة نصوص جديدة مغايرة للنص الأصلي؛ وفي حال كتابنا «العلم عند العثمانيين» الذي ترجمه الباحث محمد شعبان صوان، فإن ما يُلاحظ من مقدمة المترجم للكتاب، محاولته إخراج النص من سياقه الأكاديمي، ودفعه أو رميه في غابة وتاريخ الرجل الأبيض الكولونيالي؛ فالكتاب، كما يراه المترجم، ينتمي لذلك الصنف من الكتابات التاريخية الغربية، التي تصدر في زمننا عن الدولة العثمانية، لتقدّم قراءات جديدة وموضوعية لهذا التاريخ، بيد أن مكمن هذه الموضوعية بالنسبة للمترجم لا تعود لكونها ناجمة عن تراكم معرفي غربي في هذا الحقل، أو بوصفها صادرة عن مؤسسة أكاديمية (جامعة تكساس/2015)، وهي مؤسسات عادة ما تمتاز بقراءاتها المعرفية المتينة، مقارنة مثلاً بإنتاج المراكز البحثية، كما يرى ذلك زكاري لوكمان في كتابه «تاريخ الاستشراق وسياساته» الذي خصّصه للحديث عن خلفيات الدراسات الشرق الأوسطية والإسلامية الجديدة في الجامعات الأمريكية (المؤلفة تعمل حالياً في جامعة تل أبيب)، وإنما يعود تفسير ذلك، وفق مترجمنا، إلى كون زمن العثمانيين أصبح «مجرد تاريخ، ولهذا فلا مانع من ممارسة أقصى درجات الموضوعية بعدما زال الخطر».
هذا النفس المناهض للاستعمار والاستشراق، والمدرك كما يُخيّل له لنواياه وألاعيبه الخفية، سيبقى مرافقاً للمترجم على طول صفحات الكتاب، من خلال الهوامش التي وضعها، والتي لا يمكن نفي أنها جاءت في مرات قليلة ذكية وشافية (كما في تشكيكه مثلاً بمدى دقة اعتماد المؤلفة على كتابات المؤرخ المصري ابن أياس في وصفه للعثمانيين، خاصة أن الأخير كان مملوكي الهوى)، إلا أن هذه الهوامش غالباً ما صبّت في معركة المؤلف مع الكولونيالية والاستشراق، مما أخرج النص أحياناً من فضائه البحثي (الأكاديمي المعني بتاريخ العثمانيين واعتماد أدوات جديدة لفهم هذا العالم) إلى فضاء نضالي يقوده المترجم على حساب النص الأصلي. وكمثال على هذا التلاعب البريء بفضاء النص، أُشير هنا، على سبيل المثال لا الحصر، لفصل الرحالة ودورهم في نقل المعارف، إذ تؤكد المؤلفة على أن الأوروبيين كانوا المجموعة الأكبر من الرحّالة إلى الدولة العثمانية، وقد كوّن هؤلاء ما تدعوه بـ«جمهورية الرسائل»، وهي شبكة اجتماعية ثقافية من الأوروبيين المتعلمين الذين يلتقون شخصياً أو على الورق، وشملت هذه الظاهرة أشخاصاً من مختلف الخلفيات الاجتماعية، الذين يسافرون من أجل أهداف تتغير على طول الرحلة، فرحلات الحجاج والمبشرين كانت مختلفة كلياً عن الرحلة لأجل التعلم، في حين كانت هناك رحلات، الهدف منها التسلية والأعمال، وهناك بين الرحالة دبلوماسيون وحجاج ومبشرون وتجار ومرتزقة ومجرمون وعلماء، لكن يبدو أن هذا التمييز الذي تقترحه المؤلفة في عالم الرحلات الأوروبية، وفقا لخلفية كل منها، ومن يقودها لم تشفِ غليل مترجمنا الساخط على تاريخ الكولونيالية، الأمر الذي سيظهر من خلال وضعه لهامش قرابة الصفحتين (أقرب ما يكون للمرافعة التاريخية/ الثورية) مضمونه أن المؤلفة «أغفلت جانباً مهماً من أهداف الرحلات الأوروبية إلى المشرق وهي الأهداف السياسية بل التجسسية، وأن الكثير من هذه الرحلات سرقت معارف السكان الأصليين في العالم لتنسبها لاحقاً للأوروبيين».
ربما ما يفوت على مترجمنا أو «مثقفنا الساخط»، والتعبير هنا للفرنسي جيل كيبل، أن المؤلفة لم تنفِ ذلك، بيد أن استمرار النظر لهذه الرحلة بوصفها رحلة استشراقية/ كولونيالية قد يعكس جزءاً من التاريخ والدقة، لكن شتان بين الإقرار الجزئي، والتعميم الكامل على جمهورية الرسائل والأعمال الاستشراقية، الذي يبدو أنه تعميم بقي يحكم فضاء تفكير مترجمنا، سواء من خلال هوامشه، أو باقي كتبه، في حين يتم إغفال أن هذه الأعمال قد أعيد النظر فيها بعدسات بديلة عن عدسة إدوارد سعيد العتيقة، فقد لاحظ مثلاً الأنثروبولوجي الأصلي المغربي حسن رشيق في سياق قراءته للرحلات الأوروبية إلى المغرب، أنه من باب الاختزال، إن لم يكن الخطأ، اعتبار الأنثروبولوجيا الكولونيالية مجرد انعكاس للأيديولوجيا الكولونيالية، ومساعداً خبيثاً على سياسة الهيمنة. من هنا حاول في كتابه» القريب والبعيد»، دراسة هذه الرحلات بوصفها أعمالا مندرجة ضمن التقاليد النظرية المختلفة التي تمتلك أسئلتها ومعجمها ورهاناتها الخاصة بها.
ولعل ما يُلاحظ في هوامش مترجمنا الغاضبة، أن الدار الناشرة للكتاب لم تبدِ أي حرج أو حساسية من هذه المرافعات وعقدة المضطهد التي عبّر عنها على امتداد صفحات الكتاب/ولا نعرف، إن كانت هذه الإضافة قد تمت بعد اطلاع مؤلفة الكتاب عليها؟ أم أن النوايا كافية بعدم العودة لها؟ فهذه الهوامش جاءت كما ذكر المترجم لنا من باب «عدم الاقتصار على النقل عن الغرب، وإنما القصد منها تنمية الفكر ومحاولة تبيئة النص في واقعنا، بدلاً من واقع المحيط الأجنبي الذي كتب له الكاتب الأصلي»، أو عبر تبرير ذلك بالقول بأن «هذا الأسلوب ليس سياسة خاصة بالدار الناشرة، وإنما هي ظاهرة عامة في حقلنا العربي/ وفق ما ذكره مدير الدار». الإشكالية في هذا الطرح، أنه لا يتجاهل، فحسب مسألة أن هذه الإضافات تؤسّس فعلياً لنص آخر، وبالأخص دار النشر التي يبدو أنها لم تتنبه لمسألة أن دور المحرر لا يقتصر وحسب على مراجعته لغوياً، وإنما في الحفاظ على مطابقته للنص الأصلي قدر الإمكان، أما أن نُخرِج النص من بيئة أكاديمية ونقحمه في بيئة نضالية عبر إضافة توابل ما بعد كولونيالية عليه، فهذا خطأ كبير كما نظن.
وليت الأمر اقتصر على هذا الجانب، بل نجد أيضاً أن هذا الأسلوب في الترجمة والإسهاب في وضع هوامش نضالية يؤسّس لصورة متخيّلة عن القارئ الشرقي، وهي صورة تقول بأنه قارئ جاهل/بريء بنوايا الكتابات الغربية وأجنداتها البحثية/ وبالتالي لا بد من التدخل لمساعدته عبر الشروحات.
والنتيجة خلق أو تخيّل ثنائية تفصل على صعيد طقس قراءة الكتاب بين قارئ شرقي (جاهل، بريء، مع سلطة تفسيرية أو تأويلية يفرضها المترجم/ وهي صفات لطالما طُبِّقت على الشرق من قبل الاستشراق التقليدي) وقارئ غربي؛ ثنائية، طالما حلم إدوارد سعيد بهدمها، فإذا بمترجمنا يعود لتثبيتها من خلال توابله ما بعد الكولونيالية.
القدس العربي 21 أيلول/سبتمبر 2019