أحمد جاسم الحسين
صديقة قديمة انفصلت عن زوجها فجأة، استفهمتُ منها، فأجابت: لم يعدْ يشعرُ بي!
قلتُ لها: مؤلمٌ ذلك، لكن كيف وصلتِ إلى هذا الاستنتاج؟ قالت: أولاً إحساسي، وثانياً: أخبرتُه مرة، أنني موجوعةٌ، عندي ألم شديد في ظهري! استمرّ في عمله، وحين عاد إلى البيت، نسي أن يسأل عني. حاولتُ أن أستفهم منه، إنْ كانت عنده صعوبات بالعمل، فلم أجد شيئاً لافتاً، راقبتُ تصرفاته أكثر من شهر، فوجدتُ أنني في آخر أولويّاته، يسبقني في ذلك عمله وأطفالنا، وأصدقاؤه وأهله، وعاداته الثقيلة، فوصلتُ إلى أن ما كان بيننا قد تهدّم، وأن الأبدية لم تعد من نصيب زواجنا، قلتُ سأمنحه آخر فرصة من خلال طلب الطلاق، وافق بكل بساطة، وانتهى الموضوع، بكل مودة واحترام خلال أسبوعين.
***
زميلة أكاديمية مرّت بتجربة الطلاق، سألتها عن الأسباب، فقالت: غابتْ المشتركاتُ بيننا!
وكيف كنتم تجدونها، والآن لا تجدونها؟
قالت: عنفُ تجربة اللجوء جعل كلاً منا يبني عالماً خاصاً به عبر سنوات، فقد صيّرتنا أطفالاً صغاراً في الحياة، لكن عمرهم في الأربعين، يجبُ أن نتعلم لغة جديدة، ونبحث عن وجوه أخرى لوجودنا، وفرصاً جديدة، ومفاهيم جديدة، فمشى كلٌّ منا في طريق آخر.
قاطعتُها: لِمَ لا تبحثون عن مشتركات جديدة؟
قالت: حاولنا بصدق عبر سنوات! لكننا فشلنا، تغيرت الجغرافيا والتاريخ والمكان والهموم والحوامل! كانت تفاصيل الحياة في سوريا وأوجاعها اليومية تصنع كثيرا من المشتركات، فقد تنقطع الكهرباء، أو نفتقد الماء، أو ننشغل بالخبز وقنينة الغاز، قد نقوم بزيارة عائلية، أو مشاركة أصدقاء مناسبة اجتماعية، تجعل الحياة ملأى بالمشتركات، هناك لن تشغل نفسك بالبحث عنها، ليس لديك وقت فراغ لتفكر بعيوب الآخر ربما، هاهنا إيقاع الحياة مختلف، والحياة تكاد أن تكون بلا هموم، وكل ما كان “يعجن” المشتركات غاب عن حياتنا!
قلتُ لها: ألا يشكل الأطفال والذكريات مشتركاً كافياً لتبقيا معاً؟
قالت: الأولاد كبروا، واهتمام الدولة الهولندية بهم يجعل منهم مشتركاً ضعيفاً بيننا، لأنهم أبناء البلدية والقانون وليسوا أبناءنا فحسب، وكل واحد منهم بات لديه شبكة علاقات، ومفاهيم للحياة مختلفة! أما الذكريات فقد دفنتْها موجاتُ اللجوء وانكسارات الخسارة، وغيّبناها عن حياتنا، لذلك كان الانفصال أفضل للطرفين من “حوار الطرشان”، حيث أتحدث أنا في وادٍ، ويجيب هو من وادٍ آخر مختلف تماماً!
***
جارة لي، طلبتْ مني أن أساعدها بإيجاد “محام خبير”، يتولى مهمة ملف الطلاق، سألتُها، إن كان لا يزعجها أن أسألها عن الأسباب، ردتْ علي بهدوء: أشعر أنه متخلِّف عقلياً، وأنا محتارة، الآن، كيف قبلتُ بهذا الركام المسمَّى “زوج”، داريتُ ضحكتي، وسألتها: ألهذه الدرجة؟
قالت: نعم وأكثر، كنا ست أخوات، وكان أبي وأمي يبحثان عن أسرع طريقة لتزويجنا، كي نخفّف المصروف الكبير، ولا نجلب لهم وجع الرأس، فلم نكمل دراستنا، وهكذا أنجبتُ منه خمسة أولاد، وأنا عمري تحت الخامسة والعشرين.
قلتُ لها: لكنه أنجز ملف “لمّ الشمل” على أمل أن تجتمعوا في حياة جديدة؟ وكان يمكن ألا يقوم بذلك؟
قالت: نعم، قام بذلك من أجل أولاده، وليس من أجلي! أنا أريد أن أكمل دراستي، وأتابع حياتي كإنسان، وليس كأمّ تركض خلف رغبات أطفالها وزوجها، مللتُ من دور التابع والضحية، أريد أن أكمل حياتي كإنسان، فلماذا أُضيّع هذه الفرصة؟ للأمانة الرجل محترم، ولم يسئ لي، لكنه لم يعد يليق بي، أريد أن أحكي معه في أي موضوع، أشعر أنه في عالم آخر، هو رجل يعيش في الذكريات والماضي، وينتظر الفرصة التي سنعود فيها إلى سوريا، أنا أنظر إلى المستقبل وهو ينظر إلى الماضي، وأنا كنتُ أنتظر الفرصة كي أستيقظ صباحاً ولا أجده بجانبي في السرير، ليس مطلوباً مني أن أدفع ثمن خيار أبي وأمي طول عمري، لم يعد يشغلني عالم الرجال كثيراً، حصلتُ على رخصة سواقة واشتريتُ سيارة، وألعبُ رياضتي المفضلة في النادي، وأجلس مع صديقاتي أسبوعياً، أعملُ بشغف في مطعم هولندي، وأهتمّ بشكلي، ليس من أجل رجل محدّد، بل من أجل ذاتي، متصالحة مع نفسي، ولا أشعر بأي ذنب اتجاهه، سكنتُ فترة في بيت للسيدات المعنّفات. ثم قرر هو العودة إلى تركيا، لذلك عدتُ للعيش مع أولادي في البيت.
لِأكونَ صريحةً معك، بالغتُ في الحديث عن إساءاتِه لي، حين سألني مكتب مساعدة اللاجئين، لكن يشهدُ الله، ليس لكي أسيء له، بل من أجل أن أتخلّص منه بسرعة، وليته قَبِلَ بموضوع الانفصال، دون أن أُضْطَرَّ لذلك، فما كان مني إلا أن استفززتُه في مكتب اللاجئين، مستغلةً عدم معرفتِهم اللهجة الحلبية، حيث شتمتُ أمه، فما كان منه إلا أن ضربني أمامهم، وقتها صدّقوا كل حكاياتي، وأنا التي رضضتُ أجزاء من جسدي من قبل، لأقنع طبيب العائلة بأنه غير سوي نفسيّاً، وأنه يضربني!
لم تنتظر جارتي سماع وجهة نظري، أو تعليقي، بل اكتفتْ بالقول، بشيء من الزهو: ليس من داعٍ لحضور مترجم للمحامي، أنا أجيد اللغة الهولندية!
***
طالبةٌ مسنّة، تداري خجلها، طلبتْ مني أن تتوقف عن الدوام في دروس اللغة مدة شهر، في المدرسة التي أتولَّى إدارتها، ولما كان من قواعد المدرسة، أنْ أسألها عن السبب، كي أدوّن ذلك في سجلّها الدراسي، قالت: سأذهب لأعيش عند ابني في مدينة أخرى، ودون تردّد سألتُها، متوقعاً أن تكون إجابتي صحيحة، من خلال تجارب سابقة: لديكم حفيد جديد إذاً؟
ردتْ، وقد طفرت دمعة من عينيها: لا، أبو محمد قال إنه لم يعد يحبُّني، ولا يريد أن يرى وجهي في البيت! وأجهشتْ بالبكاء، اعتذرتُ منها، وأحضرتُ لها كأساً من الماء، محاولاً أن أهدّئ من لحظة ألمها، وتابعت: يا أم محمد العواطف مثل الموجة تأتي وتذهب، لكنها لا تغيب بين الزوجين، يمكن أن تصبرا قليلاً، بالتأكيد الظروف التي مررتم بها ظروفٌ صعبة، لكنّ قليلاً من الصبر يمكنُ أن يحلّ الأمور، هل جربتم أن تبتعدا عن بعضكما قليلاً؟ تابعتْ: الحقيقة يا أخي، الحق علي أنا. قلتُ لها: من الجيّد أنكِ حددتِ المشكلة، لذا صارَ من السهل عليكِ حلها، قالتْ: لا لا أستطيع!
كلُّ ما في الأمر أنني اشتكيته إلى مؤسسة رعاية اللاجئين، “تضحكتْ” علي جارتي، وقالت لي: الضرب في هذه البلاد ممنوع، وأنا صدقتُ!
قلتُ لها: بالتأكيد، جارتكِ معها حق، والضرب، أسوأ أنواع التعبير عن الغضب!
أتقصدينَ أنه كان يضربك، وحين منعتِه، أو اشتكيتِ عليه، احتجّ وتولدت الكراهية بينكما؟ هزتْ رأسها موافقة، وقبل أن تسمع وجهة نظري، وأنها اختارت الخيار الصحيح، قالتْ، وقد تقصدت أن لا تلتقي نظراتُها بنظراتي: المشكلة أنني أحبُّه! وانصرفتْ دون أن تسمع تعليقي، مداريةً خجلها وانكسارها!
***
صبيةٌ شابة في منتصف العشرينات، ابنة صديق لي، أخبرتني أن الطلاق حدث بينها وبين زوجها، لأنه يعتقد أن المساعدة الاجتماعية حقه وحده، ويريد أن يرسل منها كلّ شهر “مئة يورو” لأمه المريضة، ويحرمني، ويحرم ابني منها، حاولتُ مراراً أن أشرح له، أنه يمكن أن يعمل بالأسود، ويرسل لأهله، لكنه قال: إنه لا يحبُّ العمل بجلي الصحون، وأنه يكره هذه المهنة، ولا تليق به، وأن من قلة الأصل ألا يساعد أهله، حاولتُ معه مرات عديدة، ولمّا لم يستجب، اضْطِرُرْتُ للشكوى عليه، بالرغم من معارضة أبي وأمي، هزّ أبوها رأسَه، يريد أن يشعرني بالخجل من تصرف ابنته، غير أن الصبية أتمّت سردها: الأمرُ أبعد من أن يساعد والدته مادياً، هو لم يستوعب نمط الحياة الجديدة هنا، وأن لي حقوقاً مثله، ولم أعد أشعر بالأمان معه، باتتْ تأتيني كوابيس أنه قد يقتلني انتقاماً، أو أنه قد يأخذ ابني ويهرب به إلى سوريا، هو يعرف كم أحبُّ ابني، شخيرُه بات يزعجني، صوته العالي، رائحة جسده، كلّ ما فيه بات يستفزني!
حاول والدُها أكثر من مرة أن يطوي “السيرة” لكن الصبية تابعت سردها، أنا لا أنكر أن لدي “تراوما” حرب، وأنني متعبة، وأتعالج أسبوعياً، لكن كان عليه أن يكون “عصرياً” أكثر، وأن يفهم أنّ أهلي حين أجبروني على العيش معه، يومَ كنا في سوريا، لم يعد ممكناً، الآن نعيش في بلد، يسود فيه القانون، فأنا لي كاملُ الحقوق والواجبات، ولدي بيت خاص، ولستُ عبئاً على أحد، بمن فيهم أهلي!
طلبَ منها والدُها، رغبة في قطع السرد، أن تضيّفني القهوة، لكنها ردتْ عليه بطريقة مشاغبة: أبي، كما تعلم هاهنا في هولندا علينا أن نسأل الضيف ماذا يرغب أن يشرب؟ أو قد لا يرغب بذلك!
وحرصاً مني، على التخفيف عن والدها، واستجابةً للانكسار في عينيه، فقد أكدتُ لها أنني أرغب بشرب القهوة، على الطريقة السورية طبعاً!
***
أما أعقدُ السرديات التي مرت معي، ربما أغربها، فقد كانت من محامية ذات جذور سورية، التقينا في ندوة حول “وضع اللاجئين السوريين في هولندا”، جلسنا معاً بعد الندوة نتناول العشاء، أسهبتْ في الحديث عن تجربتها في هولندا: بصراحة أنا مطلقة وغير مطلقة، كانت أمورنا ممتازة ولا يشوبها خلل ظاهرياً على الأقل، كنتُ قد سمعتُ في جلسة نسائية، وقليلاً ما أشارك بهذا النمط من الجلسات، أنَّ موبايل الرجل هو صندوقه الأسود، وفي لحظة غفلة منه، خطرَ ببالي من باب الفضول، ومن أجل أن أثبتَ لنفسي في لحظة أنانية، أن زوجي كائن مختلف، وأنني امرأة استثنائية، كما كنتُ أعتقد خلال أكثر من ربع قرن، لكنني وجدتُ أعجب العجب، فقد اكتشفتُ أنه متزوجٌ من زوجة أخرى، دون علمي، ولديه أطفال منها، وتعيش في هولندا كذلك، بحثتُ في الفيس بوك كذلك عن اسمها و”بروفايلها” لعلي أجد ما يدحضُ الذي وجدتُه على الموبايل، لكنني عثرتُ على ما يعزّز، بل وضعتْ صورة لها معه!
كان من الصعب عليّ، بداية، قبول منطقية الموضوع، حتى إنني رحتُ أقلِّب الموبايل بين يدي، غير مصدقةٍ أنه له، في تلك اللحظة، بل أغلقتُ فترة من الزمن صفحتي على الفيس بوك هروباً.
لم تكن تهمّني أخلاقُه في تلك اللحظة، أو ثقتي به، بل كنتُ مشغولة بأنني حين أنظر إلى المرآة سأكون أمام “امرأة مغفَّلة”، هي أنا، وأنا التي اعتقدتُ دائماً، وأوهمني من حولي منذ كنت طفلة، بأنني امرأة ذكية جداً!
احترتُ في أي طريقة سأفاتحه، وكم تمنيتُ مرات ومرات، أن يكون ما اكتشفتُه غير صحيح، فالحكاية متشعّبة، وبناتي في الجامعة، وهو قريبٌ لي، نحن من عائلة واحدة، والموضوع معقد جداً، جداً.
بعد نقاش طويل مع نفسي، قررتُ ألّا أصدقَ، فسَّرتُ غيابَه عن البيت، بأنه لضرورات العمل، وأنَّ برودَه اتجاهي، نتيجة تقدّم العمر، وعدم اهتمامه بلباسي نوع من “تطنيش” الرجال، خاصة أنه رجلٌ قليل الكلام، وأنَّ سفراته، خارج البلاد، من أجل صفقاته المالية، خاصة أنه رجل أعمال ناجح، وهكذا أمضيتُ معه نحو خمس سنوات وأنا منكرةٌ للموضوع، وأعيشُ كنموذج للمرأة الهاربة من الحقيقة، لكنه ذات مساء، جمع أفراد العائلة، وأخبرنا الحقيقة المرة، التي تفنَّنتُ في الهروب منها سنوات!
ولأن الموضوع قد تغلغلتْ أوجاعُه في قلبي، وصار جزءاً من انكسارات الماضي، فقد ناقشتُه بهدوء شديد، ودون دموع، أمام أولاده، كانت النقطة الأولى في النقاش: أن ما قام به ليس من حقه، ففاجأتني عودتُه، غير المنتظرة، إلى “المربع الشرعي والديني” كمن لديه سلاح قديمٌ صدئ، يريد أن يستعمله في معركة معاصرة، وحين قاطعتُه: في هذه البلاد التعدّد ممنوع قانوناً! قال لي: إنه قد سجَّلَ الزواج رسمياً وشرعياً في سوريا، وهاهنا يعيش معها كصديقة، وفق القانون الهولندي!
تحدثتُ معه، بالمنظار الأخلاقي كما كنتُ أعتقد، عن الخيانة الزوجية، فردّ علي بمنطق آخر، وهو أنه حين تزوجْنا كنتُ أعلم أن الزواج بأربع نساء دون إبداء الأسباب، من حقه وحق كل رجل في سوريا، من دينِنا نفسه، وأنّ هذا يقع في حكم “المعلومة المبطنة”، التي تعرفها كل النساء، لأن القانون والعرف والمجتمع يسمح بها، وأن المعوَّلَ عليه هو المنظومة الأخلاقية، والتوافق كي يمنع حدوث ذلك! لِأجِدَ في نهاية النقاش، أنه يرفض تفسير ما قام به على أنه “خيانة”، حاولت الإفادة من قدراتي النقاشية، بأن قلتُ له: لا أقصد أنك أنت خائن! بل قمتَ بفعل خائن! قال لي: الأفضل أن تخفّفي من معجم النسوية والقانون! معظم تفاصيل حياتنا تتحكَّمُ فيها المرجعية الاجتماعية والدينية، وكوننا مواطنين جدداً في دول مدنيّة، لا يلغي أثر نصف قرن، عشناه في دولٍ، مرجعيتُها دينيةٌ، أما التغيير المنتظر، الذي تطلبينه يا سيدتي فلن أدفع ثمنه أو أتحمل وزره وحدي! هذا نتركه للجيل القادم، ولا يمكنني أن أتقبّل، بصدر رحب، كل هذه التغييرات في جيل واحد، ولأكن صريحاً معك يا زوجتي الغالية: أنا لم أختر العيش ضمن قوانين هذا البلد، أو أن هذا الخيار كان جزءاً من سلّة خيارات، لا، أنا اضْطُرِرْتُ للجوء اضطراراً، ولو عاد الزمن بي إلى الوراء، وعاد بلدنا آمناً لعدتُ إليه مباشرة!
أسهبتُ في الحديث معه عن: الوئام والتراحم والعدل والمودة، وأنه بعد أنْ فقدَ كل شيء، لم يعد يملك ذات العيون التي كان ينظر منها إلى الحياة! تناقشنا مطولاً حول معظم مفاهيم الحياة القديمة والجديدة بصفتنا صديقين: صديقةٌ مجروحةٌ، وصديقٌ جارحٌ حتى العمق، لنكتشف في نهاية النقاش، أنَّ كلّ شيء تغيّر بنا وبحياتنا، وأن تلك الأمراض لا بدّ أن تصيبِنا شظاياها.
أنا كمحامية، معتادةٌ أنْ أحسبَها بحسابات طرفيْن مختلفيْن، وما هي الخسائر والأرباح، خاصة أن العمر لم يبقَ فيه كثير من الوقت لمثل هذه التحولات السريعة في الحياة، أتعاملُ معه اليوم كصديق طوراً، وطليق تارة، وزوج مرات، أحبُّه أحياناً، وأكره الأرض التي يمشي عليها أحياناً أخرى، لستُ مظلومة، ولستُ غير قادرة على تحصيل حقوقي، لا أستطيع أن ألغيه من حياتي، ربما أدمنتُ وجودَه، ابتعدتُ عن نصائح صديقاتي، ومفهوم الربح والخسارة، صرتُ أتعامل معه، كأنني أتابع شخصية في فيلم سينمائي، أو نص روائي. ارتقتْ نفسي عن مفهوم الانتقام والتشهير، صرتُ أعيش معه كحالة لا فكاكَ منها، ربما رابطُ الدم هو السبب، أو لأن الذكريات بيننا هي دمٌ جديد، غيرُ ملموس، ربما أعجبتني فكرةُ أنْ أعيشَ قصة استثنائية، لا غالب فيها ولا مغلوب، أتواصلُ معه كشخص من “عالم السرد”، يعيش بعدة وجوه، ويمرّ بحالات متفاوتة، أتقمّصُ دوره كإنسان مسؤول، بمفهومٍ ما، عن عائلتين، أتلمّسُ معاناته للتوفيق بين حالات كثيرة، أشعر أنني قارئةٌ وأنه نصٌ مركّبٌ، مُتعِبٌ مُتعَبٌ، غيرُ متصالح مع ذاته، بتّ أعيشُ معه كأننا في عالم “ألف ليلة وليلة”، صارَ هذا الرجلُ جزءاً من متعتي اليومية، يسلّيني وجودُه في هذه الحياة الباردة، كأنه حكاية أراقبُها من خلف زجاج نافذتي! كأنني لستُ زوجتَه، أو لستُ الضحية هاهنا، بمفهوم نسوي، فما دمتُ قد قبلتُ الحالةَ، بكامل الرضا، ولي الحقّ والقدرة بالتخلصِ من العلاقة معه في أية لحظة، فإنه لم يعدْ يشغلني رأيُ الآخرين بعلاقتي معه.
المصدر: syria.tv